الجمعة، 31 أكتوبر 2008

قراءات في كتب د. محمد مشبال: "بلاغة السرد والشخصية في كتاب: الهوى المصري في المخيلة المغربية" لسليمان الطالي


عن منشورات بلاغات صدر للباحث والناقد الدكتور محمد مشبال دراسة نقدية معنونة ب: "الهوى المصري في المخيلة المغربية: قراءات في السرد المغربي الحديث"(1) بتقديم الأديب والناقد المصري سيد البحراوي وتعتبر هذه الدراسة ـ حسب تقديرناـ إضافة نوعية في حقل الدراسات السردية الحديثة في المغرب لثلاثة عوامل أساسية:

أولا: اختلاف زاوية الرؤية النقدية التي ينطلق منها مشبال نحو مفاهيم من قبيل: البلاغة والصورة عن ماهو سائد في الدراسات السردية الحديثة بالمغرب، فليست الصورة حكرا على الشعر وحده، أو على ضرب مخصوص من أجناس النثر الفني، بل هي تمتد لتشمل كل الأجناس الأدبية والسردية القديمة والحديثة على السواء، ومن ثمة فالرواية بما هي جنس أدبي سردي بامتياز فلها بلاغتها المخصوصة التي تنطوي عليها" صورها الروائية"(2).

ثانيا: اعتماد مشبال على منهج نقدي يقترب من الأعمال الإبداعية ومن"نبض" النصوص للكشف عن خصوصياتها وجمالياتها، لدرجة يتحول فيها النقد إلى إبداع ثان يراهن على التواصل مع أكبر شريحة من القراء.فالمنهج المعتمد في هذه الدراسة على الرغم من أن الباحث لم يصرح به، إلا أنه يستوحي مفاهيمه وآلياته من مناهج أدبية متنوعة ومختلفة: تاريخية واجتماعية ونفسية وفنية وتأويلية.غير أن قناعة الباحث الفكرية والنقدية تجعله غير مقتنع بجدوى تطبيق إحداها حرفيا على النصوص الإبداعية. إن هذا الاتجاه في الكتابة:" يؤكد جدية الدعوة التي أطلقها مشبال في كتاباته السابقة لأن يكون النقد قريبا من الأعمال الإبداعية، وأن يستفيد من القديم والحديث دون خضوع لأيهما، وأن يكون قادرا على التواصل مع القارئ أيضا. وهو اتجاه منهجي ... يمثل طريقا صحيحا للخروج من أزمة النقد العربي الحديث الذي سبق لي أن وصفته بالتبعية"(3)

ثالثا: جدة الموضوع المطروق، وتمحور الدراسة على(صورة المغربي) ذي الهوى والعشق المصري الذي يسكن كيانه ووجدانه ومخيلته والذي يتجسد في ثلاثة نصوص سردية حديثة كتبها أدباء يختلفون جيلا ورؤية نقدية وإنجازا إبداعيا. النص الأول:" القاهرة تبوح بأسرارها" لعبد الكريم غلاب، والنص الثاني:"مثل صيف لن يتكرر" لمحمد برادة.والنص الثالث رواية"المصري" لمحمد أنقار.

إن" التيمة" المركزية التي تهيمن على فصول هذه الدراسة " هي تيمة" الهوى المصري باعتبارها عنصرا أساسيا في تكوين شخصية جيل من الأدباء والمثقفين المغاربة في العصر الحديث، والذين تأثروا بمصر وثقافتها وفنونها وآدابها...، فتغلغلت في أعماقهم لدرجة الهوى والعشق، وهو ماحاول هؤلاء الأدباء كل من زاويته التعبير عنه في محكياتهم السردية، سواء الذين عاشوا في مصر حقيقة كعبد الكريم غلاب ومحمد برادة، أو الذين حلموا بالسفر إليها وعاشوا فيها على مستوى المتخيل كما تجسده رواية"المصري" لمحمد أنقار.

"القاهرة تبوح بأسرارها" لعبد الكريم غلاب

يفتتح محمد مشبال دراسته النقدية بتمهيد طويل عنونه ب(الحلم المشرقي) وفيه يقدم تحليلا تاريخيا واجتماعيا ونقديا وذاتيا للهوى المصري ،دواعيه،أسبابه،تجلياته،مازجا هذا التحليل بالتجربة الذاتية والشخصية التي قضاها الباحث في القاهرة وهو يحضر رسالة(الماجستير) أواسط الثمانينيات من القرن الماضي. كما يكشف لنا هذا التمهيد عن جانب مهم من حياة محمد مشبال الجامعية والمؤثرات الثقافية والأدبية والفنية التي تحكمت في تشكيل ثقافته.

أما الفصل الأول من هذه الدراسة والمعنون ب(الهوى المصري والمغامرة السياسية) فيخصصه الباحث مشبال لدراسة العمل الإبداعي(القاهرة تبوح بأسرارها) لعبد الكريم غلاب،وهو ماجعله منذ البداية ،يخوض في السياق النوعي للعمل الأدبي من أجل تصنيفه وتحديده،مادام لا يتضمن أي إشارة إلى نوعه الأدبي ،ومن ثمة لا يوجد إطار بموجبه يحدد عبد الكريم غلاب للمتلقي مجال القراءة. فتحديد الجنس الأدبي أو النوع الأدبي ضرورة ملحة للدراس إذا بدون هذا التصنيف والتحديد تصبح عملية القراءة ضربا من الارتجال والعبث .يقول محمد مشبال ينتمي هذا العمل :"إلى جنس السيرة الذاتية ،دون أن ينفي عنه ذلك اختلاطه بأجناس سردية ونثرية أخرى من قبيل أدب الرحلة وجنس المذكرات والتأريخ والمقالة السياسية"(4).فهذا العمل على الرغم من انتمائه إلى جنس السيرة الذاتية واختلاطه بالأنواع الأدبية السالفة ،فانه لا يمنع ـ حسب مشبال ـ من اعتباره سردا تخييليا، مادام السارد يستعيد انطلاقا من الحاضر (زمن كتابة هذا العمل) ماضيا ولىّ وانقضى أحداثا ووقائع ومواقف وأحاسيس من ثنايا الذاكرة وما ظلّ عالقا في المخيلة والوجدان .فالقارئ الحصيف مدعو لأن لا يعتبر كل الأحداث والوقائع المروية حقيقة وقعت للسارد وهو يعيش في القاهرة،بل هي أحداث ووقائع خضعت للتعديل من لدن الكاتب بالحذف والزيادة والتحريف والإخفاء والتأويل لأغراض مختلفة قد تكون سياسية أو ثقافية أو أخلاقية وغيرها .لقد كتب عبد الكريم غلاب عمله بعد أن تقلد مناصب سياسية وثقافية مرموقة(5).لهذا نجده يسرد جزءا من سيرة حياته قضاها في القاهرة أواسط الثلاثينيات من القرن الماضي(1937)لمتابعة دراسته الجامعية. غير أنه مالبث أن انغمس في الفضاء السياسي والثقافي وتحول من طالب يطلب العلم إلى مناضل سياسي يناضل من اجل استقلال بلاده، وتحرر كل الدول العربية التي ترزح تحث نير الاستعمار وعودة الحرية والاستقلال. إن فضاء مصر تحول في عمل غلاب السردي إلى:" فضاء سياسي أكثر منه فضاء إنسانيا أو ثقافيا"(6)إن قاهرة الثلاثينيات من القرن الماضي هي فضاء ملائم ومناسب للعمل السياسي التحرري الذي مارسه غلاب إلى جانب ثلة من الطلبة والمناضلين السياسيين العرب. إنه فضاء جغرافي وحضاري وإنساني تحول في عمله إلى فضاء للمغامرة السياسية التي زرع بذورها فيه أستاذه الزعيم علال الفاسي ولهذا السبب نجد غلاب يزاوج في هذا العمل بين خطاب السرد الأدبي والتأريخ السياسي:" وهما صيغتان أسلوبيتان أو نمطان خطابيان كان قد أتقنهما غلاب الذي جمع في كتاباته بين المقال الصحفي السياسي والسرد الروائي"(7). فالسرد في هذا العمل ينتمي إلى جنس السيرة الذاتية، غير أن صاحبه لم يفرده لتصوير الذات والهوى لدى السارد تجاه مصر والمكان الذي يعشقه، بل جاء هذا الضرب من السرد شحيحا إذا ما قورن بسرد الوقائع والأحداث السياسية والتاريخية التي كانت القاهرة مسرحا لها. فهذا العمل ـ في حقيقة الأمر ـ قد خرق أفق انتظار القارئ، فبدل أن يكشف الكاتب عن مغامرات الذات الساردة في عشقها لفضاء القاهرة في شتى المناحي والمستويات،نلفيه يغلب وظيفتي الإخبار والخطابية إلى جانب التاريخ السياسي على حياة السارد الفردية، ففي مواضع كثيرة من هذا العمل نجد السارد يخوض في حديث مستفيض عن مصر وحكوماتها المتعاقبة،ودستورها وديمقراطيتها،وعلاقتها بالاستعمار الانجليزي ووضعها السياسي في ظل الفترة المستعادة، فترة الحرب العالمية الثانية،وتغيب الذات عن مسرح الأحداث. وهو ماجعل محمد مشبال يعلل جنوح السارد إلى هذا المنحى ويفسره بسببين اثنين الأول: راجع لأهمية الأحداث التاريخية .والسبب الثاني حجاجي إقناعي والمتمثل في دفع القارئ للتعرف على هذه الأحداث من ثمة تصديقها. إن جنوح السارد للاحتفاء بالأحداث التاريخية على حساب الأحوال الشخصية الداخلية جعل هذا العمل على حد قول محمد مشبال:"أقرب إلى جنس المذكرات منه إلى جنس السيرة

الذاتية، إذا ما أخذنا بالتمييز القديم القائل بأن المذكرات تركز على الأحداث الخارجية بينما تركز السيرة على الحياة الخاصة لصاحبها"(8).إن عبد الكريم غلاب كان حريصا على توجيه عملية الإخبار والإفادة والتعليم والتوجيه للقارئ، لدفعه إلى محاكاته إن أتيحت له نفس ظروف الكاتب في السفر إلى مصر، وهو ما توضحه سيرته بالقاهرة فهي نموذج لسيرة خليقة بالاقتداء والمحاكاة. بيد أن الأحوال النفسية والوجدانية والشعورية للسارد على الرغم من بروزها في هذا العمل السردي، إلا أن بروزها باهت ونادر من قبيل:"تصويره لولعه بالثقافة المصرية ولوداع الأسرة ولوفاة الوالد وللمشاعر التي انتابته في فرنسا قبل وصوله إلى مصر ولعلاقته بأساتذته في العلم أو الوطنية. كما أن الكاتب لم يبح بأية أسرار خاصة تشبه تلك الأسرار التي يتوقعها قارئ السيرة الذاتية الذي يقبل على هذا الجنس الأدبي مدفوعا بفضول تعرف أسراره في حياة غيره"(9). غير أن هذا القول لا ينفي بروز سمات مخصوصة تميز شخصية غلاب والتي تتطابق مع سمات شخصية السارد المؤلف، وهي سمات كلها إيجابية. من قبيل: الإخلاص والوفاء تجاه:" الزعيم الوطني والأب الروحي في النضال السياسي والأستاذ في العلم علال الفاسي"(10) وتجاه قضية الوطن، والالتزام في تأدية الأمانة والمسؤولية عندما أسندت له مهمة التدريس في إحدى مدارس القاهرة لمدة سنة وغيرها من السمات. بيد أن سفر غلاب إلى القاهرة قد كشف عن أهم سمة من سمات شخصيته وهي الهوى المصري وعشقه القاهرة باعتبارها تمثل الفضاء الرحب الذي تتجسد فيها الحرية والحداثة والتي افتقدها في بلده المغرب المقيد بالتقاليد ـ في تلك المرحلة ـ والذي لم يكن يسمح برؤية المرأة ولا ذهابها إلى السينما... إن الهوى المصري الذي سكن قلب غلاب ومخيلته قبل السفر إلى القاهرة، لم يكن في الحقيقة إلا الحلم:" ببلد متحرر من الاستعمار والتقاليد البالية، بلد يجمع بين الأصالة والمعاصرة، الأصالة المتمثلة في التشبث بالهوية العربية الإسلامية، والمعاصرة المتمثلة في الأخذ بالنظم السياسية الديمقراطية وبقوانين حرية المرأة وبنظم تعليمية حديثة"(11). إن القاهرة في وعي السارد المؤلف هي فضاء شاسع للثقافة، نسجتها أعمال أدبية وفنية رائعة من إبداعات الروائيين والأدباء ومشاهير المغنيين والممثلين... إنها الفضاء المنغرس في الوجدان والمخيلة والذاكرة العربية الجمعية تمثل في طبيعة مصر وفنونها وآدابها .وعموما إن عمق الإحساس بفتنة المتخيل الأدبي والثقافي والفني المصري لدى غلاب هو الذي حفزه للخوض في مغامرة السفر والسرد.

"مثل صيف لن يتكرر" لمحمد برادة.

عنون محمد مشبال الفصل الثاني من دراسته النقدية ب:" الهوى المصري والمغامرة الجنسية"، وقد أفرده لدراسة العمل الإبداعي:" مثل صيف لن يتكرر" لمحمد برادة، وقد جاء هذا الفصل قصيرا إذا ما قورن بالفصلين الأول والثالث، ومكثفا وعميقا من حيث المعالجة النقدية، حيث خاض مشبال في بدايته في الإشكال الأجناسي للعمل الأدبي مادام يتضمن إشارة إلى نوعه الأدبي"محكيات" الموجودة على صفحة الغلاف، والتي تحيلنا مباشرة على حكي مستعاد أو سرد تخييلي، يمتزج فيه الماضي بالحاضر، والمرجعي بالتخييلي، والواقع بالفن. إنه عمل تمتزج فيه السيرة الذاتية بالتخييل الروائي دون أن يخلو من استثمار الكاتب لكل ذخيرته في صنعة الكتابة سواء كانت قصصية روائية، أو نقدية سياسية:" غير أن هذه الأنماط ظلت مشدودة إلى الخطاب السردي المهيمن وإلى التجربة الحياتية الذاتية"(12). إن" محكيات" محمد برادة تصور تأثير الهوى المصري في وجدان السارد(حماد) منذ الصغر، وهو ماحمله على السفر إلى مصر وخوض المغامرة. كما تصور صدمة هذا الفتى بفضاء لم يكن قبل السفر إلا مجموعة من الصور الثقافية والفنية التي شكلت مخيلته. كما تعمل على تصوير تفاعل السارد مع مختلف الفضاءات الموجودة في مصر الجامعية والفنية والسياسية والثقافية والاجتماعية والجنسية. إنها باختصار تصور:" تاريخ الهوى المصري في مخيلة المغربي في أطوار مختلفة في حياة السارد ووجدانه وعقله"(13).طور الحلم بالسفر، وطور الإقامة والتفاعل والذوبان في فضاء مصر، وطور الزيارات المتكررة إلى أرض المغامرة والأحلام.

لقد ركز مشبال في دراسته للمحكيات على سمات شخصية البطل حماد/ المؤلف وكيف تفاعلت مع وعيه الذاتي وذخيرته الثقافية المصرية ليصبح الهوى المصري في مخيلته مرتبطا بالثقافة والفن والعمل السياسي والحرية الجنسية(14)ومن ثم كيف أصبح هذا الهوى والافتتان حافزا للسفر والمغامرة. فالسارد/ المؤلف قد سافر إلى القاهرة وهو محمل بماضيه الحافل ب:" العفرتة والشيطنة"(15) والذي أظهره مع أترابه من زملائه المغاربة والمصريين في مدرسة الحسينية قبل الالتحاق بالكلية. فشخصيته تختلف عن شخصية عبد الكريم غلاب المحافظة التي قدمت من فاس،كما تختلف عن شخصية " الساحلي " ـ بطل"المصري "ـ التطوانية المحافظة والعليلة. إن حماد شخصية غير منطوية أو خجولة، بل شخصية شجاعة انخرطت في العمل السياسي منذ الصغر حيث:" شارك في المظاهرات وهو لم يتجاوز العاشرة، وعاشر أصدقاء الفصل الدراسي الذين أنشأوا خلية مقاومة مسلحة في 1954"(16)لذلك لاغرابة أن نجده غير متردد في التطوع للتدريب في أحد معسكرات القاهرة على إطلاق النار بعد العدوان الثلاثي على مصر وعقب تأميم قناة السويس، لقد زاوج بين الثقافة والسياسة إلى أن أصبح مثقفا وسياسيا يساريا يؤمن بالتحرر الخلقي والاجتماعي، ويخوض مغامرات جنسية مثيرة مع نساء اللذة العابرة والعلاقات الملتبسة، هذه المغامرات الجنسية قد استوحاها من أبطال السينما المصرية التي أدمن مشاهدتها مند طفولته بفاس، حاول بعد ذلك أن يحاكيها بالفعل في مصر .

إن واقع (المحكيات) لاتصور بطلا يبحث عن تجسيد صور الحب السينمائية المكبوتة فقط، بقدر ماتصور بطلا نهما وشبقا لا هم له سوى إشباع غرائزه الجنسية مع نساء من مختلف الطبقات الاجتماعية والثقافية. لقد خاض حماد /البطل هذه المغامرات الجنسية مع نساء القاهرة منذ أول زيارة له لمصر، لم تنقطع حتى في زياراته العابرة بعد أن أصبح أستاذا جامعيا ومثقفا عربيا بارزا، وهي مغامرات جنسية وعلاقات غرامية تطبعها الحسية بحيث تمثل اتجاها في الكتابة الروائية العربية الحديثة؛ تنطوي على الجرأة وتعرية الواقع، هدفها التواصل مع القارئ برؤية جديدة من أجل إمتاعه وإقناعه، ودفعه للتحرر من كل القيود والتقاليد التي تعيق حريته. فالكاتب يصدر عن مبدأ أخلاقي مناقض لمبدأ الحرص على طهارة المظاهر، والتستر الذي يتحلى به الخطاب الثقافي الرسمي في نظرته للمرأة والرجل على السواء. إنها نظرة إبداعية ورؤية نقدية جريئة، تنسجم إلى حد بعيد مع رؤية الكاتب للعالم وللكتابة ولمجال القيم مادام ينتمي إلى جيل الأدباء والنقاد الحداثيين بالمغرب.

لقد حاول حماد/المؤلف أن يدعم موقفه ونزوعه للمغامرات الجنسية مستندا إلى رأي لنجيب محفوظ يدعو فيه إلى تجديد الأخلاق بمعناها الواسع، فليس شعر أبي نواس مثلا والموصوف بالإباحية سوى:" دعوة إلى أخلاق جديدة تتمثل في المطالبة بالحرية والتخلص من المحرمات"(17) وقياسا على تجربة أبي نواس يمكن أن نفهم كل التجارب الإبداعية الروائية العربية الحديثة التي صورت الرغبة الجنسية عند الرجل والمرأة، بما فيها محكيات محمد برادة التي تصور سيرة حياته بالقاهرة(18).غير أن محمد مشبال في تقييمه للصور الجنسية في المحكيات لا يستند فقط إلى المسوّغ النقدي العام الذي حاول الكاتب أن يدعم به موقفه ونزوعه للمغامرات الجنسية وإن كانت له وجاهته النقدية، وإنما ينتقد الصورة التي صوّر بها الكاتب بطله باعتباره:"فارسا أو دنجوانا في كل المواقف الجنسية... لاتعتريه أحيانا لحظات ضعف إنساني"(19). كما ينتقد مشبال صور مغامرات السارد مع النساء بحيث يهيمن عليها التصوير الحسي في إغفال شبه تام لجانب المشاعر الإنسانية الداخلية لهن، باعتبارها مادة دسمة جديرة بالتصوير لإغناء هذه المحكيات. غير أن قوله هذا لاينفي عما خصصه الكاتب من صور روائية لمشاهد وفسحات إنسانية خاصة تعلق بها في القاهرة أو تفاعل معها مثل "أم فتحية"الخادمة النوبية،ومثل السيدة " زينات" وغيرها .بيد أن الملاحظة التي استرعت انتباه مشبال فيما سرده الكاتب من صور روائية عن:" الجامعة وأساتذتها وعموم المثقفين الذين يفترض أن يكون قد تفاعل معهم ،لا يستجيب لتوقعات قارئ مصاب بالهوى المصري"(20)،ولهذا لجأ- في نظره- إلى تخصيص بعض الصفحات من محكياته لروايات نجيب محفوظ وللحوار الذي أجراه معه بمناسبة حصوله على جائزة نوبل،وكأن الكاتب أراد أن يحدث نوعا من التوازن بين مختلف جوانب الحياة في هذا العمل(21).

وعموما يمكن القول إن هذه المحكيات تمثل من حيث وظيفتها البلاغية التداولية نصا سرديا تخييليا لصورة البطل النموذجية، ولصورة المثقف المغربي الذي حلم بالسفر إلى مصر مثله مثل معظم المغاربة في حقبة تاريخية مهمة من تاريخ تشكل الشخصية المغربية في العصر الحديث. إنها باختصار محكيات تزاوج بين استبطان الذات والغوص في أصقاعها الدفينة لمحاورتها، والتواصل مع المتلقي في نفس الوقت، ودعوته لأن يرى الكاتب نموذجا للأديب والمثقف المغربي الذي عاش تجربة حياة خليقة بالاقتداء والمحاكاة.

رواية "المصري" لمحمد أنقار

أفرد محمد مشبال الفصل الثالث من دراسته النقدية لقراءة رواية"المصري" لمحمد أنقار(21). وقد عنون هذا الفصل ب:( الهوى المصري والمغامرة الروائية) وهو يعتبر من أطول فصول هذه الدراسة، نظرا للمساحة الشاسعة التي خصصها الباحث لتحليل الرواية وتأويلها، لما تنطوي عليه من أسئلة تدعو للتفكير بواسطة أساليبها البلاغية والتخييلية، منها الإبداعي والنقدي والتاريخي والجغرافي والثقافي، إنها تتوخى تصوير تأثير الهوى المصري في مخيلة الإنسان المغربي والذي لا يتجسد في المغامرة والسفر الحقيقي كما هو الشأن بالنسبة لعبد الكريم غلاب ومحمد برادة، بل هو سفر ذهني يتحقق عبر التخييل والسرد.

إن رواية"المصري" هي قصة أستاذ مغربي عليل مشرف على التقاعد يتطلع إلى أن يكتب رواية ساحرة وفاتنة عن مدينته "تطوان" مثلما صنع نجيب محفوظ بمدينة القاهرة، غير أن العجز عن تنفيذ هذا المشروع سيسلمه للهزيمة والسقوط التراجيدي. إن الرغبة في الكتابة والإبداع عند السارد/أحمد الساحلي هي رغبة في تحدي الموت، ومواجهة المصير المأساوي الذي استبد به عقب وفاة رفيقه في الطفولة والعمل(عبد الكريم الصويري) بعد أسبوع واحد من تقاعده، كما أنها رغبة تستعيض عن العجز في تحقيق حلمه المشرقي بالسفر والمغامرة الحقيقية في فضاء مصر. إن الهوى المصري يصبح في هذه الرواية مرادفا للرغبة في الإبداع الروائي والتألق التي أوحى بها الكاتب الملهم نجيب محفوظ، والثقافة المصرية.

فما إن اطلع السارد على رواية"القاهرة الجديدة"لنجيب محفوظ حتى حدث تحول عميق على مستوى رؤيته لذاته وعلاقاته مع الآخرين ومحيطه الخارجي، كما حدث تحول عميق على مستوى وعيه الجمالي وتفكيره"الأجناسي"، فقد تحول السارد من مثقف تقليدي يعشق الشعر ويجيد الإعراب، إلى مثقف يرتبط بالواقع الاجتماعي ويعشق السرد ويحلم بالكتابة، غير أن افتتان السارد بنجيب محفوظ لم يقتصر على "القاهرة الجديدة"فحسب، بل تعداه إلى الافتتان برواياته الأخرى وببعض أبطالها(عايدة بطلة الثلاثية)و(نور بطلة اللص والكلاب) وغيرها.لقد مثلت له روايات نجيب محفوظ وعوالمها التخييلية الأسرة الخيالية البديلة التي ستحتضن الساحلي وتجعله يعيش حياة متناقضة ومزدوجة موزعا بين حياة تقليدية مكبلة بالمواضعات الاجتماعية المفروضة، وحياة خاصة ينسجها بخياله تحلق به بعيدا في أجواء الحرية والقيم المثالية التي افتقدها في محيطه. لقد افتتن أحمد الساحلي بالثقافة المصرية حتى توهم في البداية أنه يمكن أن يخرج إلى دروب مدينته العتيقة ليلتقط مادة قصصية ينسج منها رواية فاتنة عن مدينته"تطوان"، بيد أن هذا الوهم سرعان ما سيتبدد لأسباب متعددة منها ما يرتبط بالذات، ومنها ما يرتبط بالزمان والمكان. فالشيخوخة وما ارتبط بها من أدواء جسدية ونفسية، والالتزام بالمواضعات الاجتماعية وتأجيل الكتابة، والموقف المستهجن من السرد من طرف بعض أصدقائه(المحامي بنعيسى) والذي يرى في الرواية خيالا محضا يبتعد عن الحقيقة والواقع، والإهانة والضرب الذي أوشك أن يتعرض له من طرف السماك عندما حاول أن يصوغ حبكة قصصية تليق بوصف (السويقة)... هذه كلها أسباب وعوائق حالت دون تحقيق مشروعه الروائي.

إن أهمية رواية "المصري"ـ حسب مشبال ـ لا تتمثل في تصويرها الروائي لمدينة تطوان العتيقة فحسب، بل تتمثل في تصويرها معضلة كتابة الرواية،ودوافع المغامرة الروائية عند البطل وكيفية تشكلها،لقد جعلت تأمل الأدب أو الرواية موضوعا لها، ولهذا السبب نلفيها تخوض في إشكالات جمة تتعلق بنشأة العمل الروائي وهل هو حصيلة إبداع دفعة واحدة، أم هو تراكم لصور متفرقة في مراحل زمنية مختلفة، كما تخوض في إشكال نسج تلك الصور المتفرقة هل بالاعتماد على الوصف أو السرد أم الجمع بينهما، وهل بنسج الواقع أم بالاعتماد على التخييل، وكيف يمكن الاهتداء إلى الأحداث القصصية التي تلحم الصور الجاهزة...؟(22).

إن ما تضمره الرواية من أسئلة حول معضلة الكتابة الروائية، لينم ـ في الحقيقة ـ عن وعي السارد بأصول الصنعة الروائية، كما ينم عن وعي المؤلف/ محمد أنقار بنظرية الرواية وبتقنيات كتابتها، حيث سبق له أن قدّم في هذا المجال بحثا للدكتوراه(23)،بالإضافة إلى العديد من الدراسات المنشورة في المجلات النقدية الرصينة. إن هذه الأسئلة المثارة أو المستضمرة في الرواية، جعلت الباحث محمد مشبال يفتح الباب مشرعا في قراءته وتحليله للرواية لمجال التأويل، حيث وقف على إشكالية العلاقة بين الشعر والنثر باعتبارها مبحثا شغل التفكير البلاغي والنقدي العربي القديم والحديث في نفس الوقت، كما وقف على الدوافع التي تحكمت في تغيير نظرة السارد للشعر وكيف تحول اهتمامه إلى السرد(24). فمشبال ينطلق في تفسيره لهذه الرواية من سياقها الروائي العام، وما توحي إليه من دلالات، حيث عقد مقارنة بين سمات شخصية السارد أحمد الساحلي وضون كيخوطي دي لاما نشا لثربانطيس(25)، ليقف على نقط التشابه والاختلاف بينهما كثيرة؛ فإذا كان ضون كيخوطي قد افتتن بالأدب الفروسي فأراد أن يكون فارسا في زمن انتهت فيه الفروسية، فإن احمد الساحلي افتتن بروايات نجيب محفوظ فخرج إلى دروب مدينته العتيقة"تطوان"بحثا عن حبكة قصصية يبخل بها الواقع.لقد واجه كل منهما الواقع بالوهم؛ ولهذا ارتكبا حماقات بوحي من المتخيل الأدبي الذي تحكّم فيهما؛ فبالوهم استطاع كيخوطي أن يثبت وجوده باعتباره فارسا جوّالا،وعندما أراد أن يتخلى عنه في أواخر أيامه ويوّاجه الحقيقة كان ذلك إعلانا عن مرضه وعلامة على موته. وبالوهم ـ كذلك ـاستطاع الساحلي أن يخفف عن ذاته من عبء أسرته ومدينته بحيث إذا ما فكّرفي التخلي عن إنجاز مشروعه الروائي فسيكون ذلك إيذانا بالموت.

لقد فسّر مشبال معضلة أحمد الساحلي في الإبداع الروائي بالمعركة التي كان يخوضها السارد مع الخيال القصصي والذي لم يكن يسعفه في نسج حبكة مشوقة للرواية. لقد كان يجد نفسه ينحرف عن ذلك إلى التسجيل والتأريخ؛ فهو على الرغم من وعيه بأهمية السمات:" التي يفرزها اختلاط الناس بالأمكنة" (26)، وبأهمية الصور القصصية في:" البناء القصصي المتسق القادر على جذب القراء والتواصل معهم"(27)، فإنه كان يجد نفسه عاجزا عن هذه الصنعة القصصية ومنساقا وراء المعلومات والأسلوب التقريري.

لقد قصد محمد أنقار مخاتلة القارئ قصدا، ففي الوقت الذي أعلن فيه على لسان السارد بعجزه عن إنجاز مشروعه الروائي، يكون المؤلّف قد أبدع وأنجز روايته بالفعل، ولن يكتفي بذلك فقط ، بل سينجز رواية جديدة معنونة ب : " باريو مالقا" (28) تجيب عن كثير من الأسئلة المثارة والمستضمرة في روايته " المصري".

المراجع

(1)"الهوى المصري في المخيلة المغربية: قراءات في السرد المغربي الحديث" د: محمد مشبال،ط . I ، 2007منشورات بلاغاتt، القصر الكبير.

(2)يمكن للقارئ الرجوع بصدد هذا المفهوم ل:" بناء الصورة في الرواية الاستعمارية: صورة المغرب في الرواية الاسبانية" د: محمد أنقار ط.I،يناير 1994، مكتبة الإدريسي للنثر والتوزيع، تطوان.

"الصورة في الرواية" لستيفن أولمان،ترجمة:رضوان العيادي ومحمد مشبال ط.I.1995، منشورات مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة.

(3)"الهوى المصري في المخيلة المغربية" محمد مشبال، مقدمة سيد البحراوي،ص:11.

(4)نفسه ص:53.

(5) " ص:55.

(6) " ص:55.

(7) " ص:57.

(8) " ص:72.

(9) " ص: 73.

(10)" القاهرة تبوح بأسرارها" لعبد الكريم غلاب ضمن سلسلة كتاب الهلال العدد591مارس 2000ص:279.

(11)"الهوى المصري" ص:62

(12)نفسه : ص: 77.

(13) " : ص: 79.

(14) " : ص : 88.

(15) " مثل صيف لن يتكرر"محمد برادة،منشورات الفنك،الدار البيضاء-المغرب،1999.ص:14.

(16)نفسه ص : 120.

(17) نفسه : ص : 164.

(18) الهوى المصري ص : 85.

(19) نفسه ص: 87.

(20) " " : 87.

(21)"المصري" محمد أنقار،ط.I، عن روايات الهلال بالقاهرة العدد659 نوفمبر2003.

(22)" الهوى المصري" ص:144.

(23) "بناء الصورة في الرواية الاستعمارية"محمد أنقار.(مرجع مذكور).

(24)" الهوى المصري"من ص113إلى 116.

(25)نفسه ص:127و128و129و149.

(26) نفسه : ص: 156.

(27) " " :138.

(28) "باريو مالقا" محمد أنقار،ط،I،2007،مطبعة أم ـ الأمل شارع الجامعة العربية، رقم19،تطوان.

ليست هناك تعليقات: