لا تحمل كلمة ترويض أي معنى قدحي سواء استعملت بمعناها الحقيقي أم بمعنى مجازي؛ إنها خلافا لذلك تحمل كل المعاني الإيجابية التي تدل على قدرة الإنسان على الإبداع وتطويع الطبيعة لصالحه والارتقاء بحياته. فالترويض يفيد الإصلاح والتقويم والتحسين، كما يفيد استخدام الإنسان لملكاته ومهاراته في ابتكار أساليب الترويض. ففي نهاية الأمر الترويض مطلب حضاري وفعل ثقافي.
ما علاقة الترويض بالبلاغة؟
إنها علاقة وثيقة؛ فالبلاغة ترويض للسان والقلم للانخراط في مجتمع متحضر يعتمد التواصل بدل العنف، والبلاغة أيضا ترويض للكلام أو صياغة جديدة له لأجل فهمه والقبض على أسراره؛ إي إنها خطاب واصف يسعى إلى تفسير ظواهر التواصل الإنساني وتأويلها. وهولا يستطيع ذلك إلا بواسطة مجموعة من الأدوات والمفهومات التي يتوسل بها في عملية الترويض.
هل يعني هذا أنه يمكن الحديث عن ترويض بلاغي مقنن مثل حديثنا عن الترويض الطبي؟
يرى بعضهم أن ترويض الدارسين المعاصرين للبلاغة القديمة بأنه لا يدعي إنشاء "بلاغة قاعدية جديدة" بل قصارى ما يصبو إليه أن "يشتغل على بلاغة التجليات" التي لا "تتعارض مع مقولات البلاغة المأثورة وإنما تستكمل وظائفها في الفنون غير المطروقة وتستكشف وظائف وبنيات جديدة لها" أما [ترويض محمد مشبال] فقد رام إنشاء "بلاغة مقولية للنادرة" ولكنه لم يفلح في إقناعنا سوى بكشفه عن بلاغة نوعية لنصوص النوادر.
إن البلاغة المقولية لا وجود لها إلا في أذهان "المروضين" المعاصرين الذين اصطنعوا مفهومات وثنائيات ومنها ثنائية "النسق والاستعمال". إنها لا تعدو أن تكون ثمرة من ثمار الترويض المعاصر للبلاغة العربية القديمة، ولكنه ليس الترويض الوحيد مادمنا في مجال الإنسانيات؛ فمن حقنا أن ندعي أيضا أن البلاغة العربية بلاغة الاستعمال وليست بلاغة النسق، كما أن بلاغة أرسطو بلاغة الاستعمال أيضا(موضوعها أنواع الخطاب ). لقد قدم البلاغيون العرب القدامى نموذجا واضحا لبلاغة مرتبطة بالملفوظ؛ بلاغة تصوغ أبوابها وسماتها من تفاعلها مع النصوص الشعرية والنثرية. ولم ينقطع هذا التفاعل الذي ترجمه حازم القرطاجني ترجمة رائعة عندما صاغ بلاغة شعرية فريدة في التراث. هل كان حازم يقعد للبلاغة غير معني بالتجنيس؟ وهل كان قبله عبد القاهر الجرجاني يقعد للبلاغة خارج وعيه الجمالي بالشعر حتى وهو يستدل على إعجاز بلاغة القرآن؟
إن علاقة البلاغة بالنسق المجرد أو "صورية البلاغة" فكرة كباقي الأفكار التي لا نكف عن اقتراحها اليوم لترويض البلاغة العربية وباقي علوم العربية؛ فنلحق البلاغة بالعروض والنحو ونقول إنها علوم صورية أسسها أصحابها على مفهوم النسق وليس الوظيفة أو الاستعمال. فلا شأن للخليل بوظائف الأوزان ودلالاتها أو تأثيرها لأنه كان يقعد للعروض خارج الشعر بما هو محتوى جمالي. لكن مع ذلك هل يجوز قياس البلاغة على علمي النحو والعروض: هل بدأت البلاغة بالتقعيد؟ وهل يجوز بالفعل حصر عمل البلاغيين في فئة أو في كتب، أم أن البلاغة ماثلة في كل نظرة تعبر المسافة الفاصلة بينها وبين النص؛ منذ أن فضلت أم جندب صورة شعرية لعلقمة الفحل يصف فيها الخيل على صورة شعرية لزوجها امرئ القيس محتكمة إلى معيار مستمد من تجربتها وليس من قاعدة جاهزة، إلى آخر النظرات التي نمارسها في حياتنا اليومية على كل مظاهر الإبداع الإنساني مستندين إلى خبرتنا الجمالية والإنسانية المتراكمة.
لأجل ذلك لم أزعم في كتيبي المذكور إنشاء بلاغة قاعدية على أنقاض البلاغة العربية القديمة، ولكنني أرى ضرورة "ترويض" هذه البلاغة وإعادة اكتشافها وتطويرها لأجل صياغة بلاغات نوعية؛ ولاشك أن تراثنا يزخر بملاحظات ثاقبة (ملاحظات الصابي والجاحظ وحازم وابن جني والجرجاني وابن الأثير..) يمكن استثمارها في إنشاء هذه البلاغات الخاصة أو النوعية.
لقد كان أمين الخولي-في تقديري- أكبر "مروضي" البلاغة العربية في العصر الحديث، وقد بلغ ترويضه درجة التقويض لمرتكزات هذه البلاغة. فما علاقة بلاغته المقترحة بالبلاغة "المقولية"؟! ألا تتعارض بلاغته مع مقولات البلاغة المأثورة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق