يعتبر الدكتور محمد مشبال من بين الأسماء المنشغلة بالسؤال الثقافي والأكاديمي بالمغرب، إذ استطاع عبر تجربته في هذا المجال إنجاز مجموعة من الكتب الهامة، نذكر منها: " مقولات بلاغية في تحليل الشعر"،" بلاغة النادرة"، "أسرار النقد الأدبي"، "البلاغة والأصول"، إضافة إلى كثير من الأبحاث والدراسات النقدية في مجلات عربية إلى جانب إشرافه على الأطاريح الجامعية في هذا المجال، ومشاركاته في ملتقيات علمية بالمغرب وخارجه، عكست انشغاله الجدي بإضفاء طابع التنوع على إجابات البحث العلمي بالمغرب.
وبالنظر إلى هذه المكانة التي يشغلها التقى به الأستاذ حسن اليملاحي على هامش مشاركته في أشغال ندوة جماليات التأويل بمدينة القصر الكبير وأجرى معه الحوار التالي.
I ـ سؤال الدرس البلاغي
س 1: تعززت المكتبة النقدية المغربية والعربية بمجموعة من إصداراتكم (مقولات بلاغية ـ أسرار النقد الأدبي ـ بلاغة النادرة-البلاغة والأصول) إضافة إلى مجموعة من المقالات والدراسات والترجمات والحوارات. والمتتبع لهذه الإصدارات يلاحظ أنها تخضع لإستراتيجية نقدية متميزة في مجال النقد الأدبي العربي الحديث. هل يمكن للدكتور محمد مشبال تقريب القارئ من الخلفية الفكرية التي يتأسس عليها هذا النقد؟ومن جانب آخر هل يمكن الحديث عن تحقق استجابة تاريخية لهذه الانشغالات؟
ج- محمد مشبال:أشكرك في البداية على اهتمامك بكتاباتي وحرصك على إذاعة أفكارها وتوصيلها إلى القراء الذين لم تتح لهم فرصة التواصل معها أو تعرُّف صاحبها.فلاشك أنك بهذا الحوار تحقق نوعا من الاستجابة التاريخية-كما وصفتها في سؤالك- لهذه الكتابات التي بدأت في الظهور منذ بداية التسعينات.ولكني أريد أن أنبه منذ البداية إلى أن أي حديث عن مؤلفاتي ينبغي أن يأخذ في الحسبان الدائرة العلمية التي انبثقت منها؛ وأنا لا أقصد هنا الروافد التي شكلت ثقافتي النقدية وصاغت رؤيتي للأدب منذ وقت مبكر، بل أقصد المشروع النقدي الجماعي الذي صدرت عنه تلك المؤلفات.فالأهم في هذه الكتابات-في تقديري- أنها تسهم في بلورة تصور نقدي متكامل الوسائل والغايات؛ تصور يتوخى أصحابه أن يمثل شخصيتهم وإبداعهم الفكري الخاص، مستعيدين موقفا حضاريا أعلنه ابن سينا وحازم القرطاجني عندما طالبا الناقد العربي بضرورة الاجتهاد والابتداع وعدم الاكتفاء بالنقل من الثقافة النقدية اليونانية(أو الغربية)؛ فحسبنا-كما ورد في كلامهما- أن نتدبر الشعر(أو الأدب) العربي لنضيف إلى ما وضعه أرسطو( أو النقد الغربي) من قوانين نقدية استمدها من تدبره للشعر اليوناني(أو الأدب الغربي).
هذا الدرس المستفاد من موقف النقد العربي القديم عندما وجد نفسه في وضعية التواصل مع النقد اليوناني، هو الذي كان على النقد العربي الحديث أن ينتفع به عندما واجه وضعا مماثلا منذ عصر النهضة حتى الآن.غير أن هذا لم يتحقق إلا في حدود دنيا، وظل النقد العربي الحديث يجتر أفكار نظيره الغربي من دون أي اجتهاد حقيقي، وكاد يصبح مجرد نسخة مشوهة وباهتة له، لولا-لحسن الحظ-أن بعض النقاد العرب كانت لهم من الإرادة الصادقة والثقافة الواسعة والذهن الثاقب والإبداع الفكري ما جعل تلك الأفكار المستعارة تذوب وتنصهر في شخصيتهم المتميزة والقوية.فإذا استثنينا بعض النقاد الرواد أمثال طه حسين وأمين الخولي ومحمد مندور وشكري عياد وعز الدين إسماعيل..، وفئة قليلة من النقاد المعاصرين في مصر والسعودية وتونس والمغرب، فإن معظم الكتابات النقدية العربية الحالية تجري عليها صفة النسخ المشوه الذي أشرت إليه.ويبدو أن تزايد عدد المجلات النقدية والأدبية ذات التوجه الحداثي في السنوات القليلة الماضية قد أوجد حاجة إلى الدراسات النقدية لملء صفحاتها، مما نتج عنه تزايد ملحوظ في أعداد الممارسين للنقد والبحث الأدبي من دون أن يستوفي-معظمهم- ملكة النقد وشروط الكتابة.
وعلى الرغم من أنني مثل غيري من الباحثين الذين التحقوا بالجامعة المغربية في بداية الثمانينات،ووجدوا أنفسهم أمام خيار قاهر هو الانخراط الواجب في المناهج النقدية الغربية إن هم أرادوا صناعة مستقبلهم النقدي، إلا أن علاقتي بهذه المناهج اتخذت منذ البداية صيغة الدرس المتسائل والبحث المتشكك والتأمل النقدي.لقد كنت مثل أي قارئ يستهويه العمل الأدبي فيقبل على كتاب نقدي يبصره بمنابع الجمال التي يقصر إدراكه الغض عن بلوغها؛ولكنني في معظم الأحيان الآن لا أجد هذا النقد الذي مازالت فتنة بعض أعماله تتردد أصداؤها في وجداني مثل أي عمل فني ساحر.وكان مطلوبا مني شئت أم أبيت-في هذا الطور الجديد من أطوار حياتي- أن أصفي الحساب مع هذه الأعمال وأن أنظر إليها باعتبارها جزءا من تاريخ النقد الذي فقد فعاليته في ظل الصعود القوي لاتجاهات النقد الحداثي ومناهجه.كان علي باختصار أن أنخرط في هذه الموجة المتصاعدة من النقد الأدبي دون أن أبدي موقفا أو أناقش رأيا.في هذه اللحظة من تاريخ ثقافتنا الأدبية تنزلت بعض الأفكار منزلة البدهيات غير القابلة للمناقشة أو منزلة الثوابت المسلم بها:
-تحويل المنهج إلى ما يشبه الشيء المقدس.
-الالتزام بالمنهج الواحد وعدم خلطه بالمناهج الأخرى.
-الدعوة إلى علمية النقد والابتعاد عن الذاتية.
-رفض التقييم في العمل النقدي.
وغيرها من مرتكزات الممارسة النقدية العربية الحديثة التي بات ضروريا-في تقديري- زحزحتها وتفكيكها لأجل خلق ممارسة نقدية تؤمن بالخلق والاجتهاد والابتداع.إن الناقد مطالب اليوم بالتحرر من سلطان هذه الأفكار والنزوع نحو المغامرة النقدية والتفاعل الخلاق مع الأدب. لقد صار النقد عندنا منظومة من القواعد وصيغا جاهزة للتطبيق، ولم يتم تصوره باعتباره ميدانا للتفكير في الأدب والحياة والمجتمع والإنسان.
وفي واقع يتسم بنقل جهود الآخرين أصبح من السهولة ممارسة التنظير، وهو الأمر الذي يغدو شاقا عندما يقترن مفهومه بخلق التصورات وابتكار الصيغ.ولا ريب أن التنظير بهذا المفهوم لن يتأتى إلا بمواجهة حقيقية للأعمال الأدبية؛فهذه الأعمال هي الميدان الحقيقي للاجتهاد والابتداع الغائبين من خطابنا النقدي.
ولابد أن أقر هنا بأن المشروع النقدي الذي تندرج فيه كتاباتي يسعى إلى استشراف هذا المبدأ الفكري حتى وإن لم يفلح أصحابه في تحقيقه؛إننا ينبغي أن نعترف بأن الخطاب النقدي جزء لا يتجزأ من الحالة الثقافية التي يعيشها الإنسان العربي؛ فأزمته الإبداعية جزء من أزمة الإبداع التي يعيشها هذا الإنسان في كل مجالات الثقافة والحياة.ولأجل ذلك فإن النقاد مطالبون بالإبداع النقدي حتى يسهموا بنصيبهم ليس في الإبداع الثقافي أو الأدبي فقط ولكن في إبداع أساليب الحياة نفسها. من هنا كان من الضروري أن يقف الناقد العربي-إن كان صادقا- وقفة التدبر والتأمل ومراجعة الذات، ولا بأس أن يبدأ من الأسئلة البسيطة: هل ما أكتبه يساعد القراء والأدباء في تنمية وعيهم الجمالي ويعمق قدراتهم على فهم الحياة الإنسانية والرقي بأنفسهم، أم أن ما أكتبه ليس سوى حذلقة ثقافية عقيمة لا تملك القدرة على التواصل مع حاجات المجتمعات العربية الجمالية والاجتماعية؟
إن مشكلة الناقد العربي المعاصر تتمثل في أنه يمارس وظيفته وكأن حقل النقد الأدبي وليد اللحظة التي يكتب فيها؛إنه يكاد يقطع كل صلة له بمنجزات النقد السابق.وإذ يولي ظهره لمكاسب النقد ونظراته الجمالية الثاقبة التي راكمها نقاد كلاسيون أو رومانسيون أو واقعيون، فإن ارتماءه غير الواعي في دائرة المناهج النقدية الحداثية البنيوية وما بعد البنيوية، جعله ناقدا فقيرا وفاقدا لوظيفته وتأثيره.وإنك لتستطيع أن تلاحظ معي أن معظم النقاد الذين يمتلكون اليوم القدرة على التواصل مع القراء هم الذين تمثلوا منجزات النظريات الحديثة معتمدين على رصيد مكين في الثقافة النقدية المتراكمة تاريخيا، وعلى رصيد ذخيرتهم الأدبية والحياتية، ويمتلكون-بالإضافة إلى ذلك- رؤية للثقافة والحياة.
أستطيع القول بعد هذا إن هذا الوعي جعلني أميل إلى بعض النقاد والباحثين وأزوَرُّ عن آخرين على الرغم من أنهم قد يكونون أكثر انتشارا وشهرة، ولكنهم لا يستجيبون لطموحي النقدي.وبالمعنى نفسه أستطيع القول أيضا إن المشروع النقدي الذي صغت في سياقه كتاباتي لم يحقق حتى الآن أية استجابة أو تفاعل خارج الدائرة الضيقة لمجموعة من الباحثين الذين أنجزوا أطاريحهم في كلية الآداب بتطوان حول الصورة الروائية بإشراف الدكتور محمد أنقار. قد يكون فيما ألفناه من دراسات حتى الآن لم يحقق التراكم العلمي الكافي، أو أن السياق النقدي والثقافي العام الذي قدمت أعلاه بعض ملامحه العامة، لم يهيئ بعد المناخ الملائم لنماء تصورنا وازدهاره، وقد يرجع الأمر في النهاية إلى غياب نقاش حقيقي وتواصل بناء بين المثقفين في الحقل النقدي، وهو ما يفسر الحساسية المفرطة والخصومة الصامتة بين النقاد الذين ينتمون إلى البلد الواحد أو المتجايلين أو الذين لا تربطهم بشكل من الأشكال علاقات نفعية.
وعلى العموم آمل أن نجتهد أكثر في توصيل أفكارنا لعلنا نشارك غيرنا من الباحثين في تغيير ملامح الخطاب النقدي العربي الراهن الذي يعاني مشكلات كثيرة.
س 2: إلى جانب نقاد وباحثين آخرين انطلقوا من كلية آداب بتطوان، تطرح دراساتكم النقدية واهتماماتكم البلاغية نفسها باعتبارها تشتغل على مفاهيم جديدة تسعى إلى تعميق وتحديث النظر في مكونات اشتغال الخطاب الأدبي العربي القديم والحديث. هل يمكن الحديث عن تيار بلاغي جديد بصدد التشكل من داخل تطوان؟
ج-محمد مشبال- بإمكان القارئ المتتبع للأعمال التي كتبتها أن يلاحظ بسهولة أنها تندرج في حقل البلاغة، لكن ما يجب الوقوف عليه وتعرُّفه هو طبيعة التصور البلاغي الذي تصدر عنه تلك الكتابات.فالبلاغة التي أتحرك في دائرتها تختلف عن البلاغات السائدة قي النماذج البلاغية الغربية أو في الدراسات البلاغية العربية المعاصرة؛ إنها بلاغة تتوخى أن تستوعب الأعمال الأدبية في أنواعها وأشكالها المختلفة؛ بلاغة عامة حقيقية بالمعنى الذي لا يهدر خصوصية البلاغات النوعية أو الخاصة. ولعل جذور هذا التصور توجد في كتابات الشيخ أمين الخولي، ولكن الذي بلور هذا التصور في صيغة مفاهيم هو الأستاذ محمد أنقار الذي تفاعلتُ مع تفكيره النقدي في كل ما كتبت حتى الآن؛ فمفاهيم من قبيل المكونات والسمات والسمات التكوينية والصورة الروائية والصورة المسرحية والصورة القصصية والصورة الكلية وتساند السمات والمكونات والبلاغة النوعية وغيرها، هي مفاهيم صاغها أنقار واعتمدها في بناء تصوره البلاغي للأعمال و الأنواع الأدبية،وقد عملت على الاستفادة منها وإغنائها في دراساتي المختلفة، كما عمل غيري من الباحثين الذين تخرجوا من كلية الآداب بتطوان على توظيفها في كتاباتهم.وإنك لتستطيع القول إننا في كلية تطوان نجتهد لصياغة مشروع بلاغي مختلف. وهناك عدد من الطلاب الباحثين منخرطون الآن في بناء هذا المشروع في إطار وحدة التكوين والبحث"بلاغة النص النثري" التي أشرفُ عليها بصحبة الأستاذين محمد أنقار ومحمد الأمين المؤدب.
س 3: ينخرط الدكتور محمد مشبال في حوارات نقدية مع بعض الأطروحات البلاغية المغربية المعاصرة (أطروحات محمد الوالي، محمد العمري،وحميد لحمداني،ورشيد يحياوي... وآخرين).هل يمكن اعتبار ذلك نوعا من التقييم للدرس البلاغي المغربي؟
ج-محمد مشبال-كان علي في سبيل بناء تصوري للبلاغة وللعمل النقدي وللإبداع الأدبي، أن أتتبع الدراسات العربية التي تتقاطع مع الأفكار والمفهومات التي نتداولها في مشروعنا البلاغي والنقدي المشار إليه، وخاصة الدراسات المغربية التي كانت تنبئ حقا بنوع من الجدة والجدية معا،وقد أسفر هذا التتبع عن طموح إلى إشراك بعض هؤلاء الدارسين فيما كنا نخوض فيه؛لأجل ذلك لم أتردد لحظة في مناقشة كتاباتهم وتقييم أفكارهم، لعلي بذلك أسهم في تحقيق أمرين متداخلين؛ تقديم أفكارهم وأفكارنا للقراء.ولكني –في واقع الأمر- كنت أتطلع إلى ما فوق ذلك، وهو أن أخلق حوارا مباشرا أو غير مباشر بين الأفكار المتداولة في الثقافة الأدبية المغربية.غير أن هذا لم يحصل للأسف الشديد، وظل التواصل بين أفكارنا وأفكار الآخرين يسير في اتجاه واحد.وحتى هذه اللحظة لم يتصد باحث جاد للأفكار التي نتداولها منذ عشرين سنة، على الرغم من الاحترام الشخصي والتقدير العلمي اللذين يكنهما لنا جميع هؤلاء الباحثين الأفاضل الذين ذكرتَ أسماء بعضهم.
والحق أن مثل هذا الحوار مفتقد في الثقافة الأدبية المغربية برمتها، وهو ما يكشف عن أحد أوجه مشكلاتها الكثيرة؛فنحن-على نحو عام- إما نسترفد الآخر الأجنبي ونستند إليه ونتباهى بأفكاره ونعظمها أو -في الجهة المقابلة- نمتح من ذواتنا ونضخمها وندعي لأنفسنا الريادة والسبق والافتراع.وفي الحالتين لا نتبادل الأفكار ولا يقرأ بعضنا بعضا ولا نمنح الفرصة لمن يختلف عنا في التعبير عن ذاته.باختصار إننا لا نتحاور، ربما نخشى على أنفسنا؛ نخشى أن نفقد شيئا عزيزا علينا وهو جوهر ذاتنا التي نريد أن نقدمها للآخرين باعتبارها لسان آدم الذي ليس صدى لأي لسان آخر.ولاشك أن هذا شكل من أشكال الأنانية الثقافية التي تنشأ في بيئات تعاني رواسب الماضي بممارساته المتخلفة؛ ومن بينها ممارسات المثقف السلطوية وتناقضاته وأوهامه وعجزه.
أستطيع القول بكل اطمئنان إن التحاور المشار إليه غائب من الحقل الأدبي عندنا، وهو ما أفسح المجال لأنماط أخرى من أنماط التواصل من قبيل المجاملات التي تغدق على المؤلفات، أو السجالات التي تنشأ-في الغالب- عن أسباب غير علمية.وفي الحالتين لا تجني الثقافة المغربية فوائد تستحق الذكر.وإذا كان غياب التحاور له أسبابه التي أشرت إلى بعضها، فإن حضور المجاملات والسجالات لها أسبابها أيضا؛ إنها ليست-في العمق-سوى دفاع عن الذات و الأنا المتضخمة؛ وبينما تنصرف المجاملات إلى من يسهم في تعزيز الذات وتقوية حضورها، تتوجه السجالات إلى من يختلف معها ويشكل خطرا يهدد وجودها.
وفي تقديري كنت في قراءاتي للآخرين متحاورا أروم التواصل والتفاعل، وكان غيري ممن قرأ مؤلفاتي مساجلا يروم إقصائي لإثبات ذاته وتعزيز سلطته في الحقل الثقافي المغربي.ومثل هذا السلوك الثقافي نراه في ضوء مشروعنا النقدي المتكامل نمطا بدائيا ومتخلفا ينبغي أن يزول لأنه لا مجال للأوهام ولا نفع في التطاحن والمعارك في زمن يخسر فيه المثقف يوما بعد يوم معركة التواصل التي تكتسحها وسائل التكنولوجيا الحديثة.
III ـ سؤال الثقافة:
س 1: تدرسون بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان لمدة طويلة. في ضوء تجربتكم في التدريس والتفاعل مع المستجدات والتحولات التي يشهدها الفضاء الجامعي، كيف تنظرون إلى الدرس الأكاديمي اليوم بالمغرب؟ و هل ترى أن هناك طلاقا قائما بين الجامعة ومحيطها الثقافي، بالنظر إلى محدودية مساهمة الجامعة في إغناء السؤال الثقافي العام.هل يعزى ذلك، في نظركم، إلى الاختلاف في التصورات بخصوص المسألة الثقافية أم أن الأمر تتحكم فيه اعتبارات وإكراهات أخرى؟ وبعبارة أخرى، هل يمكن الحديث عن تحققات تداولية للدرس الأكاديمي بالمغرب؟
ج-محمد مشبال-لا أتفق مع الرأي الذي يقول بالإسهام المحدود للجامعة في إغناء الثقافة العامة؛فمعظم الدراسات النقدية المنشورة التي تناولت الرواية والقصة والشعر والنقد في المغرب هي في الأصل رسائل أو أطاريح جامعية.كما أن معظم النقاد والدارسين الذين تملأ أسماؤهم صفحات الملاحق الثقافية والمجلات هم أساتذة في الجامعات أو طلاب باحثون.صحيح أن مناهج الدرس في شعب الأدب العربي بهذه الجامعات قامت منذ البداية على درس تاريخ الأدب العربي وعلى اعتماد نصوص لا يتجاوز تاريخها بدايات حركة التحديث في الأدب والنقد مما أعطى الانطباع بانفصال الدرس الأكاديمي عن واقع أسئلة الثقافة العامة، إلا أن الجامعة المغربية لم تعدم مع ذلك أساتذة باحثين مجتهدين حرصوا على مواكبة الإبداع الجديد في مجال الأدب والنقد وفتحوا الجامعة على الواقع الثقافي والأدبي المتجدد، وكانوا يسهمون في إغناء الثقافة المغربية.بل إن هؤلاء اضطلعوا بدور مزدوج؛فهم أكاديميون بالإضافة إلى أنهم فاعلون ثقافيون في الهيئات والجمعيات العمومية.وربما كان الوضع الثقافي في المغرب مختلفا عن بعض البلدان العربية الأخرى حيث لا توجد فيه قاعدة واسعة لناشطين ثقافيين غير جامعيين.
وبهذا المعنى لم يوجد انقطاع حقيقي بين الدرس الأكاديمي وبين تحققاته التداولية، إلا في أوساط الدارسين الجامعيين الذين رفضوا المناهج الحديثة ولم ينفتحوا على اللغات والثقافات الأجنبية ورفضوا حركة التحديث في الأدب والنقد الغربيين.
س 2: تقوم بعض الهيئات وجمعيات المجتمع المدني (اتحاد كتاب المغرب...) بدور قوي في مجال إغناء الخطاب الثقافي المغربي في أفق الإجابة عن انتظارات الثقافة المغربية. باعتباركم أحد المنشغلين بالسؤال الثقافي المغربي كيف تنظرون إلى ما تراكم حتى الآن من منجز ثقافي نظرية وممارسة؟
ج-محمد مشبال-إذا حصرنا حديثنا في هيئة " اتحاد كتاب المغرب"؛ فمن الإنصاف القول إنها قادت حركة الحداثة النقدية والأدبية في المغرب وخلقت كتابا ونقادا انتشر صيتهم في العالم العربي.وأعترف أنني مدين في تكويني النقدي المبكر إلى ما كانت تنشره مجلة أفاق من دراسات نقدية جديدة لم أكن قد تعودت قراءتها في مجلات عربية مشرقية.فقد قرأت لنقاد ومبدعين أسهموا في إغناء الحركة الأدبية والنقدية المغربية أمثال إبراهيم الخطيب ومحمد برادة وقمري البشير ونجيب العوفي وبنعيسى بوحمالة وعبد الحميد العقار ومحمد السرغيني وعبد القادر الشاوي وعز الدين التازي وأحمد المديني ومحمد زفزاف ومحمد الهرادي وغيرهم.
صحيح أن الجامعات المغربية أسهمت بعد ذلك في تنشيط الحياة الثقافية المغربية بظهور جيل جامعي جديد من الدارسين في مجالات مختلفة، لكن اتحاد كتاب المغرب ظل يمارس دوره بحماس شديد ونجح في إقامة ندوات عربية عن الرواية والقصة القصيرة وموضوعات أخرى لا تزال مرجعا قويا للدارس العربي حتى الآن. لكن يجب القول –مع ذلك- إن فروع هذه الهيئة ليست على درجة واحدة من النشاط؛ فبعضها متألق بينما يغط بعضها الآخر في السبات ولا يقوم بالدور الثقافي المنوط به.
والحق أنني أميل إلى أن تكون هناك تعددية في الهيئات والجمعيات العمومية حتى يحصل تنافس حقيقي في حياتنا الثقافية.
س 3: تخصص بعض المؤسسات جوائز تشجيعية لتتويج الإصدارات في مختلف فروع المعرفة. بالنسبة إليكم، ما الذي يمكن أن تمثله الجائزة في حد ذاتها؟ وماذا عن معايير الاختيار؟
ج-محمد مشبال-في الحقيقة أتمنى لكل من يشتغل في الحقل الثقافي بصدق ومثابرة أن يحصل على الجائزة.لأن العمل في هذا الحقل شاق لا يدر على صاحبه في أحسن الأحوال سوى إحساس ذاتي بنشوة إنجاز عمل فكري سرعان ما تسلمه للتأمل في عمل آخر؛ وهكذا تتجسد حياة المثقف في سلسلة من الأعمال يفضي بعضها إلى بعض دون أن يكون لها أي صدى-في معظم الأحيان- خارج الحدود الضيقة للنخبة المثقفة التي قد تتقلص أحيانا لتنحصر في مجموعة من الطلاب والباحثين الذين يشاركون صاحب العمل انشغالاته.فالجائزة في مثل هذا السياق قد تكون مناسبة –مادامت تعني مبلغا ماليا- لتعلن للناس العاديين أن الثقافة ليست مجرد ترف أو حذلقة، بل إنها شيء ثمين بالمعنى الحسي.
إن من حق كل من يعمل في المجال الثقافي أن يطمح إلى الجائزة، وأتمنى أن تكثر الجوائز وأن يحصل عليها كل مبدع ودارس أخلص في عمله.وأما عن معايير الاختيار؛فلا أظن أن الإبداع الجيد والدراسات الجادة يمكن أن تكون موضع اختلاف إذا استبعدنا من معايير التقييم الأهواء الشخصية والمعايير الإيديولوجية والسياسية وغير ذلك مما لا يدخل في حيز التقييم العلمي.
VI ـ سؤال الإبداع:
س 1: تثار بشكل حاد جدا مسألة القطيعة بين النقد والإبداع إذ أن الوتيرة المتنامية في حركية الإبداع لا توازيها دينامية في الحركية النقدية، باعتباركم ناقدا كيف تتصورون علاقة النقد بالإبداع؟
محمد مشبال-أتمنى أن أكون ناقدا بالفعل كما وصفتني؛ إنه حلم راودني منذ فترة مبكرة ؛لأن النقد،كما جاء على لسانك حقا، ينبغي أن يكون حركة ثقافية دينامية تتفاعل مع حاجيات الإبداع والمجتمع.إن للناقد دورا حضاريا؛ فهو يسهم في تطوير الإبداع الأدبي عندما يرشد المبدع إلى بعض التفاصيل الجمالية التي لم يتنبه إليها، على نحو ما يساعد القارئ في تذوق العمل الأدبي وفهمه.إن المبدع الذي لا يقرأ النقد لا يستطيع أن يطور عمله، كما أن القارئ الذي يكتفي بالعمل الأدبي دون النقد سيظل قارئا عاديا لا يستطيع أن يتحول إلى قارئ مثقف يجعل من قراءاته ميدانا للتداول الثقافي.إن الناقد الأدبي فاعل ثقافي مهم في المجتمعات الدينامية؛ وإني أزعم أن الناقد-بهذا المعنى- يكاد ينعدم في دوائر ثقافتنا الأدبية، لأسباب عدة؛ لعل أهمها الفهم الخاطئ للممارسة النقدية الذي ساد في السنوات الأخيرة، حيث شاعت بعض المفهومات النقدية التي تنكرت لوظيفة النقد الأساس المتمثلة في تقييم الأعمال الأدبية.وقد نتج عن ذلك فقدان النقد لوظيفته الاجتماعية والثقافية والحضارية؛إن غياب النقد بهذا المعنى أفسح المجال لانتشار معايير أخرى أصبحت تتحكم في صناعة نجوم الثقافة و الأدب، والأخطر من ذلك تحكمها في إشاعة الأساليب وطرائق الكتابة وترسيخها في أذهان القراء ووعيهم،وتوجيه أذواقهم وأفكارهم.
في سياق هذا الوضع الذي تحول فيه النقد إلى خطاب يتأمل ذاته عبر مرآة الأعمال الأدبية التي تحولت إلى مجرد وسيط في عملية التأمل هذه، تلاشت النصوص الأدبية الجيدة وسط ركام هائل من الأعمال الأدبية المنشورة، كما تلاشى القارئ في هذا اليَمِّ غير قادر على الاهتداء إلى الطريق الصحيح( أو العمل الأدبي الجيد). لقد ولىَّ زمن الناقد المستكشف والمستبصر، الناقد الذي كان يقوم بدور الوسيط بينه وبين القارئ، يعينه على الاختيار والتذوق.باختصار، نعم هناك قطيعة بين النقد والإبداع بالمعنى الذي أوضحته هنا.
(جريدة الاتحاد الاشتراكي ـ المواقع الإلكترونية: دروب ـ إيلاف)
أجرى الحوار حسن اليملاحي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق