الأربعاء، 29 أكتوبر 2008

دراسات في السرد الحديث: سرد الحياة وحياة السرد في روايات سيد البحراوي القصيرة

بعنوان "هضاب ووديان"[1] أصدر سيد البحراوي تجربته الروائية الثانية بعد روايته الأولى "ليل مدريد".غير أنه في هذه المرة لم يكتب رواية واحدة، بل ثلاث روايات قصيرة(هضاب ووديان، رحلة الكروان، مغامرة رشيد) ضمها عنوان واحد هو عنوان الرواية الأولى في الكتاب،وكأننا بإزاء مجموعة قصصية؛ بحيث يمكن وصف هذه التجربة التأليفية بأنها مجموعة روائية، مادامت النصوص الثلاثة تتلاقى في الرؤية والأسلوب أو تصدر عن تجربة أدبية وإنسانية واحدة.

ولعل هذا الاختيار التأليفي أن يفرض نمطا من القراءة الكلية تعمد إلى تمثل نصوص الكتاب على نحو يعيد تشكيل التجربة الموحدة؛ أي الإجابة عن سؤال ضروري:ما هي طبيعة البلاغة التي اعتمدها الكاتب في تكوين هذه النصوص الروائية؟

الرواية بين خطاب المغامرة ومغامرة الخطاب.

لاشك أن أحد سبل قراءة الأعمال الأدبية هو وضعها في سياقها النوعي لأجل فهمها وربما تأويلها أيضا.وإذا كان قارئ هذه النصوص الثلاثة يشعر في النهاية أن الكاتب لم يأخذه في سرد ينطوي على نصيب وافر من الامتداد والتوتر والصراع والتشابك وغيرها من السمات التي ألفها القارئ في بلاغة الروايات؛فإن ذلك لا يعني أن هذه النصوص انحرفت عن الجنس الروائي، بقدر ما يمكن القول إن صاحبها سعى إلى الإبداع داخل هذا الجنس بما يناسب رؤيته الجمالية والاجتماعية التي نصبو إلى الكشف عنها في هذا المقال.

لقد عمد الكاتب إلى تشكيل نصوصه على نحو يوحي للقارئ بأن ما يقصه عليه السارد من وقائع وأحاسيس أمور حدثت له بالفعل في رحلاته الثلاث؛ أي إنه اعتمد في تشكيله لبلاغة التخييل الروائي بلاغات سردية أخرى من قبيل السيرة أو المذكرات مما يفسر هذه البلاغة المخصوصة التي أقدم عليها لإنجاز نصوصه الروائية التي تتراجع فيها ضرورات السرد التخييلي ومقتضياته المعروفة.

وربما كان تصنيفه لها في إطار الرواية القصيرة علامة أراد بها الكاتب الإشارة إلى هذه الحرية الإبداعية التي اتسمت بها كتابته الروائية.غير أن صفة القصر هنا لا تتنافى مع روح بلاغة السرد الروائي.ومع ذلك، ينبغي الإقرار بأن هذه الروايات الثلاث تحتفظ بسمات بلاغية الجنس الروائي، تجلت في حرص الكاتب على توفيره للحبكة أو الموقف السردي المتوتر، على الرغم من أن هذا الصنف من الروايات الذي يركز على الذات أو المكان أو يصرح بمضمونه لا يَعِد بدرجة عالية من الصراع الدرامي والتوتر الحاد الذي يمكن أن يشد أنفاس القارئ.

إن الكاتب الذي يقرر الكتابة عن مغامرة ما قبل قيامه بها يكون قد غامر بالفعل؛يقول السارد بعد نهاية روايته"مغامرة رشيد":"ومع أن مشروع هذا النص قد بدأ عند قرار اختيار رشيد للرحلة، فإنني لم أكن أعرف كيف سيتواصل ويكتمل...كان مجرد مغامرة، أعطتها هواجسي الداخلية، وأزمتي مع زوجتي، ومع حياتي واختياراتي السداة، لكن الساعات القليلة التي التقيت فيها بإيفون والتواطؤ المحدود التي تم خلالهما، هما اللذان أعطياها اللحمة، التي جعلتني أستطيع مواصلة الرحلة في رشيد حتى نهايتها وأستطيع إكمال النص."[2]

هذا إقرار من السارد بأن طبيعة البلاغة التي اختارها في صياغة نصه السردي تعتمد خطاب السيرة والمذكرات؛ أي إنه يعول في نسج نصه على ما تزوده به مغامراته ورحلاته الفعلية وكأن لا مجال للتخييل في صياغة النصوص الروائية.وهنا لاشك يثار سؤال بدهي: لماذا يوهمنا السارد بالأهمية الحاسمة للوقائع الحقيقية في كتابة النص؟ولماذا هذا الارتباط العلي بين الكتابة وبين ما يجري في الواقع الحقيقي؟

إن أول أغراض السارد وأهمها في اختياره المعتمد على الإيهام بحقيقة ما يروى هو إيقاع التصديق بالواقع المجسد في النص ولفت نظر القارئ إلى أزمة الكاتب الذي اختار أن يعتمد الواقع لتصوير مغامراته العاطفية والجنسية؛فهذا الكاتب قد لا يمده الواقع بمثل هذه المغامرات، ومن ثم فإن نصه قد يفقد أسباب وجوده.ولكي يتحقق النص ينبغي أن يلوذ الكاتب بالخيال أو الحلم. وفي الحالة الوحيدة التي اعتمد فيها السارد الواقع في تشكيل نصه السردي لم تكن مغامرته مرغوبا فيها.فقد أكرهه هذا الواقع عليها ولم يحوجه الأمر إلى تدبر أو تخيل لإكمال النص؛فمرارة الواقع هي النص السردي ذاته.على هذا النحو لم يعد الواقع يفرز سوى القبح والشر، أما الجمال فمجاله الحلم والخيال.

تحكي الروايات الثلاث مغامرات السارد أو رحلاته أو خروجه من بيته ومدينته؛ وفي هذا الخروج يتحقق السرد تارة بسبب فساد الواقع( رواية رحلة الكروان) وتارة أخرى بواسطة الحلم(رواية هضاب ووديان) أو التخييل(مغامرة رشيد) حيث يتحول هذا الواقع نفسه إلى عائق من عوائق السرد والمغامرة وتدفق الحياة. على هذا النحو عمد الكاتب إلى تكوين بلاغة تعتمد سمة المغامرة لأجل خلق حدث يستطيع بواسطته أن يصوغ سرديا أزمات الشخصية وهواجسها.هذا هو عمود بلاغة الرواية في هذا العمل؛ أي خلق حدث لتصوير شخصية مأزومة والكشف عن الحالة التي تعيشها وعن سماتها الشخصية وسلوكها في الواقع الراهن.غير أن النصوص الثلاثة التي تعتمد هذه الخطة البلاغية البسيطة في الظاهر،تحمل معنى آخر تسعى إلى تصويره وهو أزمة الحياة التي تنذر بأزمة السرد نفسه.

لا تكتفي إذن هذه النصوص بتصوير أزمة الشخصية المحاصرة في الواقع، بل تصور أيضا أزمة السرد في واقع مليء بالموانع.فالسارد المثقل بالأزمات والعلل؛ بعضها معلن في النصوص وبعضها الآخر متروك للاستنتاج، يبحث عن شكل أدبي لصياغة أزمته، أو بتعبير آخر، يبحث عن حدث يخرجه من رحلات روتينية لا تحمل عناصر جذب له أو للقارئ.غير أن هذا الشكل أو الحدث لا يتحققان في الواقع الفعلي؛ أي في مستوى الرحلة باعتبارها فعلا(أستثني هنا رواية رحلة الكروان التي سأعود إليها بعد قليل). وتحققهما في الخطاب أو الرواية دون الرحلة الفعلية، هو السمة البلاغية التي راهن عليها الكاتب لتوصيل أزمة الحياة؛فقد لجأ السارد إلى خلق الحدث بواسطة الحلم في الرواية الأولى، وإلى "فضح السر"- بعد نهاية الرواية الثالثة- والاعتراف بأن الحدث المحكي لم يجر في واقع الرحلة بل أضافه من وحي خياله.

ما الذي جعل السارد في روايتي "هضاب ووديان" و"مغامرة رشيد" يسند وقوع الحدثين البارزين فيهما(اللقاء الجنسي بين السارد وهاديا الفتاة الجزائرية في الرواية الأولى وبينه وبين إيفون السويسرية في الرواية الأخرى) تارة إلى خطاب الحلم وتارة إلى خطاب الكتابة؟

الإجابة الواضحة عن هذا السؤال، هي أن السارد يصور واقعا عربيا محافظا (في المشرق والمغرب) تزداد فيه القيود على الحرية الفردية؛ قيود أخلاقية واجتماعية تخنق الحياة وتوقف مجراها المتدفق.فالسارد في الرواية الأولى يشبع،بواسطة الحلم،رغبته الجنسية المكبوتة؛رغبة طبيعية اصطدمت بالمنع في مجتمع مدينة قسنطينة الجزائرية.وفي رواية "مغامرة رشيد" يضطر السارد إلى التخييل السردي لتعويض حرمانه من علاقة حب بدأت بينه وبين امرأة سويسرية في مدينة رشيد السياحية، وذلك أيضا بسبب قيود الرقابة والمحافظة المفروضة عليهما.

لاشك أن الكاتب أراد أن يوصل هذا المضمون الواضح بواسطة شكل جمالي غير مألوف؛ أعني الإيغال في الإيهام بواقعية السرد وتطابق النص السردي والواقع القائم وكسر توقع القارئ الذي رسخت لديه نصوص الذخيرة الروائية سيناريو سهولة اللقاء الجنسي بين الرجل والمرأة.حيث عمد الكاتب إلى خرق هذا السيناريو المألوف أو السخرية منه بواسطة خلق سيناريو جديد يكشف للقارئ أن اللقاء الجنسي ممتنع على مستوى الحكاية الفعلية وإن لم يكن كذلك بالنسبة إلى الخطاب السردي لهذه الحكاية.

هذا التعارض بين الحكاية(القصة كما حدثت) والخطاب(القصة كما رويت) قامت الروايتان بتعريته لتحقيق بعض الوظائف؛ فهو يلفت نظر القارئ إلى أزمة الحرية في حياة الإنسان العربي، على نحو ما يومئ أيضا إلى أن هذه الأزمة إن نجحت في شل حريته الفعلية وإيقاف مغامراته وبحثه عن السعادة، فإنها من جهة أخرى لا يمكن أن تنتزع منه الحلم أو الخيال أو الكتابة؛ فهذه وظائف وطاقات إنسانية تمكنه من مراوغة القهر الأخلاقي والاجتماعي والسياسي.على هذا النحو قاوم السارد كل أشكال المنع التي لاحقته في رحلتيه وهددت مغامراته ومن ثم خطابه السردي؛ حيث أفلح-على مستوى الحلم- في تنفيذ مغامرته الجنسية مع هاديا في الفندق بالجزائر، كما أفلح-على مستوى الكتابة- في إتمام علاقة الحب مع إيفون في مدينة رشيد المصرية.

غير أن هذا التعارض لم يحدث في الرواية الثانية "رحلة الكروان" التي تطابقت فيها الرحلة الفعلية مع خطابها السردي(وهو بالطبع مجرد تطابق افتراضي لا أصل له في الواقع حتى وإن قد كان حدث بالفعل)؛ حيث قام خطاب الرواية بتصوير القهر الذي تعرض له السارد من أجهزة الأمن المسؤولة عن حمايته دون أن يضطر الخطاب السردي إلى تجاوز الرحلة الفعلية(أو القصة كما حدثت) أو مراوغتها بالحلم أو الكتابة كما حدث في الروايتين الأخريين. لقد آوى الخطاب السردي التخييلي في هذا النص إلى الحكاية الفعلية مستسلما لما جرى في الواقع.هنا يبدو أن وظيفة الخطاب اكتفت برواية الحكاية لأن السارد لم يعد يملك القدرة على المقاومة عندما وجد نفسه يسبح في تيار الفساد ويستسلم له طوعا أوكرها.

إن قراءة الروايات الثلاث مجتمعة تفرض على القارئ الانتباه إلى التنويعات التي صاغ بها الكاتب العلاقة بين الحكاية الفعلية والخطاب السردي المنجز؛ تلك التنويعات التي تكشف أن السارد(أو الكاتب) إما أن يذعن في خطابه إلى سلطة الواقع والحكاية الفعلية، أو أن ينشئ خطابا حالما أو تخييليا.في الخطاب الأول يكتفي السارد بالنقل والمحاكاة بينما يتجاوزهما السارد في الخطاب الثاني إلى خلق عالم وهمي مواز للعالم الواقعي، عالم خال من أشكال القهر الاجتماعي والقمع الأخلاقي، حتى وإن أوحى الخطاب السردي أنه لم يخل منها تماما بل أفلح في التحايل عليها ومراوغتها فقط.

لاشك أن هذا العمل الروائي بنصوصه الثلاثة يثير سؤال الكتابة ووظائفها في عالم تضيق فيه الحريات وتزداد أشكال القهر وتتنوع.فالكتابة تستطيع أن تقاوم سواء بتصوير ما يجري في الواقع أو تصوير ما يمكن أو يحتمل أن يجري، مادامت الكتابة( أو الخطاب) تشكل أداة للسيطرة على التجارب التي يمر بها الإنسان.فقد تمكن السارد بإنشاء خطاب "رحلة الكروان" الروائي من السيطرة على تجربة القهر التي مر بها عندما وُجِّهت إليه تهمة(؟) إلحاق الأذى بالآخرين(أمه وأخته) وذلك عندما وقعت له حادثة سيارة في الطريق إلى الكروان نجمت عنها إصابات طفيفة، حيث سحبت منه رخص السيارة مما أجبره على مواجهة سلسلة من الإجراءات الإدارية الفاسدة للتخلص من الورطة الحقيقية التي حرمته من الاستمتاع بالرحلة التي قام بها برفقة أفراد عائلته بعد سنوات من الوحدة؛ يقول في نهاية الرواية وبعد انتهاء المحنة:" ..وقاد محمود السيارة ببطء حتى "الكروان"، وقد انتهى-بداخلي-كل ما كان قد تبقى لدي من شعور بالسعادة"[3].

لكن السارد التي انتهت رحلته هذه النهاية غير السعيدة سيبحث عن السعادة في الكتابة، حتى ولو كانت كتابة من الصنف الذي يكتفي بسرد ما جرى. فقد يكتشف السارد فيما سيكتب ذاته،ويصبح-في هذه الحال- انتقال الحكاية من الفعل إلى الخطاب مناسبة للتأمل والفهم.يقول السارد في رواية"هضاب ووديان" بعد شعوره بالعجز عن تناول وجبة العشاء بأطباقها:

" في زمن مضى، حينما كنت أمر بمواقف مثل هذه، كنت أعيش حالة من التعاسة لا توصف.الآن لأنني أستطيع الكتابة، أشعر بنوع من السعادة والرضى عن نفسي، لأنني قادر على المصارحة وعلى أن أعرف نفسي أفضل مما كنت قبل ذلك. هذه تجارب في الحياة، جميل أن نعيشها وأن نستوعبها، وألا تدعها تفسد علينا الحياة، بل نغلبها إذا أمكن.[4]"

وبالكتابة أيضا استطاع السارد أن يجسد المغامرة الجنسية التي لم يَـجُد بها الواقع المحافظ والقامع، وأن يخلق بواسطتها الحياة والسعادة والتواصل.فلعلها أن تكون الأداة الوحيدة التي يملكها المثقف العربي في الوضع الراهن للاحتجاج والمقاومة والرفض.

بلاغة الصور الجنسية.

في رواية "هضاب ووديان" ورواية "مغامرة رشيد" تهيمن-في مستوى الخطاب السردي- الصور الجنسية المحمومة التي تكشف عن رغبة السارد (أو الساردين) المكبوتة. وقد سبق القول إن بلاغة الروايتين قامت على إبراز[5] التعارض بين المغامرة في الحكاية الأصلية والمغامرة في الخطاب السردي؛ فالتوهج الذي أسبغه الكاتب على اللقاءات الجنسية في النصين يمكن تسويغه روائيا بأنه سمة من سمات صور الحلم والتخييل؛فقد صيغت الصور الجنسية في سياق الخطاب السردي ولم تحدث في الواقع الحقيقي، ولأجل هذا حملت دلالات الانطلاق والحرية والاندفاع.كما أن الساردين شخصيتان تعانيان ضروبا من العلل والأزمات الذاتية والموضوعية؛ وفي بحثهما عن الحب (أو الجنس لا فرق بينهما هنا) باعتباره نوعا من الرغبة في الحياة والتواصل والتحرر والسعادة يصطدمان بإيديولوجية قامعة ضاعفت عللهما وبلغت بأزمتيهما الذروة التي دفعتهما إلى التسامي بالرغبة المكبوتة بواسطة الحلم أو الكتابة لملء الفراغ وسد النقص في الواقع والاحتجاج على الإيديولوجية المهيمنة في واقع المدينة التي تفرض قيودا على الحرية باسم الدين أو الإرهاب أو غيرهما.

1- مغامرة الحلم.

تجري أحداث رواية "هضاب ووديان" في مدينة قسنطينة بالجزائر ؛ حيث يرصد السارد تنقلاته داخل الفندق أو خارجه في فضاء المدينة ذات التاريخ العريق أو يرصد مشاعره واسترجاعاته؛ وفي خلال ذلك كله يمتد الحدث الروائي ويتطور، وهو البحث عن "هاديا" أو الدافع الخاص الذي كان وراء زيارته العملية هذه المرة إلى هذه المدينة؛ يقول السارد:"ليس الأمر مجرد شهوة. لها سحرها الخاص، لا تدري أين يكمن بالضبط..ثمة أسطورة خبيئة تريد أن تتعرف عليها. جئت لكي تعرفها، وليس تدري إلام ستصل".[6]

وطوال النص الروائي تلتحم أسطورة المرأة بأسطورة المدينة:" يراودني هاجس –وأنا أنتظر- أن هذه ستكون آخر زياراتي لقسنطينة فها أنا منذ المرة السابقة وأنا أحاول تملك أسطورتها.أمتلك بعض المفاتيح من المشاهدة والاستمتاع والقراءة..لكنني لم أستطع بعد. هاديا هي المفتاح الأهم. وإذا لم تتصل ..فلن آتي بعد ذلك كما هددتها من قبل"[7].ويتجلى هذا الالتحام أو التداخل في نص صورة الحلم الجنسية، وهي صورة تداخل فيها جسد المرأة بجغرافية قسنطينة،على نحو ما كثفت سماتها واقع المدينة في تحولاتها الحديثة: المنع وكبت الرغبات والحريات وما يترتب عن ذلك من خوف وانكماش وإصرار على التحدي في الوقت نفسه.

في هذه الصورة الروائية يتحول جسد هاديا –بفعل الإخصاب الجنسي- إلى جسد أسطوري ينتصب ثدياه وينتفضان ليخرجا منهما ماردان؛ جسد كأنه نبيذ وردي معتق لا يرتوي وارده، سحيق ومخيف.جسد يكتسي كامل أنوثته وهو يتحرر من القيود ويلتحم بالجسد الآخر؛ لقد تخففت هاديا من الملابس واهتاجت بعنف وصرخت وتأوهت وغيرت الأوضاع.أما السارد الذي قدمته الرواية منذ البداية مهووسا بالمرأة، يستشعر أقل تلامس بجسدها ولا يدع أدنى فرصة سانحة للاقتراب منها، فقد حملت صورته في الحلم كل سمات صورته الشخصية المرسومة في الرواية: الرغبة والأزمة والخوف والمنع والتحدي. على هذا النحو شكل الحلم صورة روائية تندغم في السياق الكلي للرواية.

ويجب التنبيه-من جهة أخرى- على أن صورة الحلم المتحررة لم تنفصل عن الواقع المقيد الذي صدرت عنه؛ فالسارد المنطلق في دنيا الحلم والجماع لم يستطع أن يخفي أزمته التي تجلت في انكماشه وخوفه وعدم قدرته على الاستجابة الجنسية لولا الجهد الذي أبداه الطرف الآخر (المرأة) في إنقاذ فحولته وتجديد طاقته.كما أنه في الوقت نفسه تقمص دور القامع والكاتم لأنفاس العملية الجنسية مثلما مارسها المحيط الاجتماعي معه عندما حرمه من تحقيق التلاقي الجنسي الفعلي بالمرأة في عالم الواقع.هكذا انتقل الخوف من عالم الواقع إلى دنيا الحلم؛ وهاهو السارد المتخوف والباحث عن اللذة يضغط على جسد هاديا حتى لا يخرج صوتها من الباب وحتى لا تعلن لذتها.

هذا الوضع يوحي باللذة المنتزعة؛ فالسارد ينتزع لذته الجنسية في الحلم تحت سلطان الخوف وسياسة التكميم، كما انتزع مغامرته من الواقع المعاكس بواسطة هذا الحلم نفسه.فهل نملك-في هذه الحال- القول إن هذه الصورة الجنسية ليست في سماتها سوى صورة قسنطينة كما وصفت في كتاب حول المدينة العتيقة حصل عليه السارد في إحدى جولاته بالمركز الثقافي بالمدينة؛ تقول الصورة:

"مدينة محصنة كعش النسر ومتدلية كعنقود عنب مطل على نهر الرمال. وجهها تفاحة من قرميد.. ويداها ربوتان من الحجر الصوان..إن مدينتنا قريبة من السماء والسماء لا تكون زرقاء إلا في قسنطينة كما قال أديبها مالك حداد"[8].

تتجاور هنا صفتان متعارضتان: (محصنة-قريبة من السماء) في مقابل (متدلية). كما تحيل العناصر المشبه بها إلى حقل الاشتهاء والغواية (عنقود عنب-تفاحة-ربوتان)؛ ولكن هل يجوز الاقتراب من العنقود أو من التفاحة..؟ وهل يمكن مطاولة السماء؟

إن القارئ المتمرس ببلاغة الرواية يجد نفسه مجبرا على أن يتدبر العلائق المحتملة بين هذه الصورة والسياق النصي للرواية، وبشكل خاص علاقتها بالصورة الجنسية التي قمنا بتحليلها حتى يتمثل تلك الدلالة التخييلية التي رامها الكاتب في روايته وأعني بها اللذة المحرمة أو المقدسة التي يتعذر الوصول إليها.

2-مغامرة الكتابة.

في رواية "مغامرة رشيد" يقدم السارد جملة من الحوافز التي دفعته إلى السفر والخروج والمغامرة؛فقد كان مرهقا جسديا ونفسيا، يعيش أزمة مع زوجته ومشاكل صحية، ويحتاج إلى الهدوء والتأمل والتواصل مع ذاته، كما يحتاج إلى من يخرجه من سأمه ووحدته[9]..

يمكن نعت هذا النص بأنه رواية الذات والمكان في الوقت نفسه كما عبر السارد بقوله:"أريد رشيد البشر والمباني. أريد التاريخ كما ترك نفسه فيهما معا-هل أريد أيضا أن أرى نفسي كما ينبغي؟"[10]

تلتقي هذه الرواية بسابقتها في تصوير المكان بأبعاده التاريخية وتحولاته الاجتماعية والسياسية في الواقع الحاضر، وذلك من خلال سرد قصة سفر السارد إلى مدينة رشيد السياحية ولقائه بسائحة سويسرية استشعر الحاجة إليها دون أن يفلح في تحقيق حبه لها في الواقع الفعلي.ولأنه قد كان قرر الكتابة عن رحلته من قبل، فلم يكن بالإمكان أن يحرم سرده للرحلة من علاقة حب تنعش هذا السرد وتمنحه أسباب الحياة، على نحو ما تنعش الكتابة نفسها حياة السارد وتمنحها معنى؛ لأجل ذلك قرر اختلاق هذه العلاقة أو انتزاعها من الواقع بواسطة التخييل.فهل نجح التخييل في خلق علاقة حب خالية من الموانع والمعوقات أم أنه مثل الحلم في رواية "هضاب ووديان" لم يكن مفارقا للواقع بل كان امتدادا مكملا له؟

عندما نتأمل صورة الحب التي نسجها خيال السارد بعد أن أنهاه الواقع المحافظ في المدينة، نجدها –على الرغم من ذلك- جزءا من هذا الواقع مهما احتجت على إيديولوجيته وتمردت على قيوده.فاللقاءات الجنسية بين السارد وإيفون تمت في سرية خوفا من تربص المراقبين، وحتى عندما قررا مواصلة لقاءاتهما في القاهرة تدخل الإرهاب وحال دون ذلك.وهل يمكن أن ينفصل السارد في ممارسة التخييل عن حدود الواقع الذي يعيش فيه؟

يقول السارد موهما القارئ بالإفصاح عن مضمون الرواية:"كانت تحتاج وأنا أحتاج. وكلانا احترم الآخر، واحتج،، أو تحايل على قمع مورس ضدنا من البوليس والتاريخ والإرهاب ورغم كل ذلك، ورغم كل ما فيها من قذارة ورقابة ومحافظة نجحت رشيد في أن تحتوي حبنا".[11]

هذا التصريح يخفي حقيقة أخرى كشفها السارد بعد نهاية الرواية وهي أن الاحتجاج الفعلي لم يحدث سوى بالكتابة أو التخييل السردي وليس بالفعل أو العمل، وأن مدينة رشيد لم تنجح في احتواء حب السارد وإيفون؛ حب مات في المهد لأن رشيد التي سعى إليها السارد ووصفها بالعشيقة، مدينة لا وجود لها سوى في قلوب أهلها الذين أحبهم:"هي ليست قائمة الآن. هي تحت التلة، وربما شمالا في الطريق إلى شاطئ البحر المتوسط"[12].

وعلى الرغم من أن عشيقته رشيد لم تنجح في إخراجه من أزمته المتعددة الوجوه؛ فمازال يتطلع إلى اللقاء بإيفون في مدينة رشيد التي يحلم بها؛ مدينة التعدد الثقافي والتاريخ النضالي؛ مدينة تنبذ القمع ولا تخلقه.فالسارد هنا مثله مثل السارد في رواية "هضاب ووديان" يحلمان بمدن لا تقف في وجه ازدهار الحياة وتتحول إلى فضاءات للتخويف والترهيب ووضع الحواجز بين البشر.

***

في هذا العمل الروائي بنصوصه الثلاثة اعتمد الكاتب خطابا سرديا يتقاطع مع الخطاب السائد في جنس المذكرات أو السيرة أو الرحلة في إيهامه القارئ بصدق ما يروى واكتفائه بتدوين ما يحدث له على سبيل الحقيقة.غير أن هذا الإيهام-في الروايتين الأولى والثالثة- لم يكن سوى خطة توخى منها الكاتب إظهار عقم الواقع وجموده وكبته للحرية والحياة ووقوفه ضد السرد نفسه الذي شاء أن ينطلق منه في تكوين حياته وإثبات وجوده.لقد أراد الكاتب أن يواجه الواقع في المدينة العربية بسؤال بسيط ولكنه غير مألوف في الأعمال الأدبية: ماذا لو اقتصر الكاتب المبدع على تمثيل ما يجري في واقعه حرفيا؟ أي ماذا لو لم يسعفه الخيال أو الحلم في تكميل هذا الواقع وتحويله إلى إبداعات سردية إتسانية فاتنة؟

الجواب الذي تفترضه الرواية هو أنه واقع قبيح خال من الحب والحرية والسعادة؛ واقع صوَّرته هذه النصوص الثلاثة بصيغ جمالية تنوعت بين الحلم(هضاب ووديان) والمحاكاة(رحلة الكروان) والتخييل(مغامرة رشيد).وإذا كان النص الأول والثالث قد قاما بتكميل الواقع والبحث عن بديل ممكن له ولو كان بالحلم أو التخييل، فإن النص الثاني أذعن له واستسلم لقبحه فجاءت الحكاية كما أرادها الواقع من دون تكميل أو تجميل.ولكن أليست الكتابة الأدبية ذاتها –كيفما كانت صيغتها الجمالية-نوعا من التحدي لهذا الواقع أو نوعا من الاستيعاب للتجارب حتى نتمكن من السيطرة عليها؟

لقد قد سيد البحراوي في هذا العمل نصوصا روائية قريبة من السرد اليومي في لغتها وبنائها؛ نصوصا زاوجت بين أنماط متعددة من الخطاب(خطاب المذكرات أو السيرة أو الرحلة أو التاريخ) إلى جانب السرد الروائي المستبطن للذات والواقع والمكان، وذلك باعتماد حدث بسيط في توتره وتطوره.و هذا النوع من الكتابة يحتاج من الناقد قدرا من المرونة للتجاوب معه.



هضاب ووديان-ثلاث روايات قصيرة، آفاق للنشر والتوزيع،القاهرة، ط1 ،2006[1]

نفسه، ص. 156.[2]

نفسه، ص.74.[3]

نفسه،ص. 16.[4]

أستخدم مفهوم الإبراز هنا باعتباره تقنية جمالية أو بلاغية بصرف النظر عن دلالات استخدامه في إطار التصورات الأسلوبية البنيوية. [5]

الرواية، ص. 9.[6]

نفسه، ص. 14.[7]

نفسه، ص. 20.[8]

نفسه، ص. 77-78-81-82-128[9]

نفسه، ص. 82.[10]

نفسه، ص.154.[11]

نفسه، ص. 155.[12]

ليست هناك تعليقات: