الاثنين، 3 نوفمبر 2008

قراءات في كتب د. محمد مشبال: في تأويل بلاغة السرد قراءة في كتاب"الهوى المصري في المخيلة المغربية" للدكتور محمد مشبال

صدر للدكتور محمد مشبال كتاب جديد بعنوان"الهوى المصري في المخيلة المغربية" قراءات في السرد المغربي الحديث[1]، عن منشورات بلاغات، ووضع له الدكتور سيد البحراوي مقدمة بعنوان "الهوى هوانا"، أشار فيها إلى أن المنهج النقدي في هذا الكتاب لا يقتصرعلى تحليل الأعمال الأدبية في جوانبها الفنية وإنما يحرص من خلال هذا التحليل على إبراز"قضية" ثقافية وتاريخية هي الهوى المصري باعتبارها عنصرا من عناصر تكوين الشخصية المغربية الحديثة.

يتوزع الكتاب إلى مقدمتين وتمهيد و ثلاثة فصول:

-التمهيد: "الحلم المشرقي" وفي يتذكر المؤلف هواه المصري عندما رحل للدراسة في القاهرة في أواسط الثمانينات.

-الفصل الأول: "الهوى المصري والمغامرة السياسية" من خلال كتاب "القاهرة تبوح بأسرارها" لعبدالكريم غلاب.

- الفصل الثاني:"الهوى المصري والمغامرة الجنسية" من خلال محكيات "مثل صيف لن يتكرر" لمحمد برادة.

- الفصل الثالث: "الهوى المصري والمغامرة الروائية" من خلال رواية "المصري" لمحمد أنقار.

يتناول الكتاب "صورة" المغربي المفتون بالهوى المصري في ثلاثة أعمال أدبية كتبها مغاربة من أجيال مختلفة ومن زوايا مختلفة حسب طبيعة وتوجه كل كاتب أو راو أو بطل في هذه الأعمال؛ وكلها تعكس "الهوى المصري" الذي استولى على الوجدان المغربي تاريخيا، كما تعكس ذلك الالتحام المتواصل بين المغرب ومصروذلك التواصل القائم على الفهم والوعي والإبداع. ويرى الباحث أن الهوى المصري يشكل جزءا من كيان المغربي الثقافي ومخيلته ووجدانه، ويدعو المثقف المغربي أن يتدبر مختلف صيغ التواصل الكائنة والممكنة بين الثقافتين المغربية والمصرية، بعيدا عن أخلاقيات الإقصاء والتعالي واللامبالاة.

أ." القاهرة تبوح بأسرارها" وهيمنة الدلالة الخطابية:

يمثل كتاب عبدالكريم غلاب"القاهرة تبوح بأسرارها" صورة للعلاقة التي ربطت الإنسان المغربي بمصر والثقافة المصرية في فترة الأربعينات. ويشير الباحث إلى أن كتاب عبدالكريم غلاب لا يحمل أي إشارة إلى نوعه الأدبي غير أنه لاحظ أن هناك تطابقا بين المؤلف والسارد أو الشخصية، الأمر الذي يدعو إلى تصنيفه ضمن السيرة الذاتية، واختلاطه بأجناس سردية ونثرية أخرى من قبيل أدب الرحلة وجنس المذكرات والتأريخ والمقالة السياسية.

ويحكي عبدالكريم غلاب في هذا الكتاب جزءا من سيرته الذاتية قضاه في مدينة القاهرة في منتصف الثلاثينات من القرن العشرين، حيث سافر إليها سنة 1937 لأجل استكمال دراسته بجامعتها، غير أن الأجواء السياسية أغوته، فتحول من مجرد طالب منتظم إلى سياسي مثقف يناضل لأجل استقلال بلاده والبلدان العربية التي كانت تطالب المستعمر بالاستقلال، وتكافح لنيل الحرية. [2]

ويعد الكاتب من أبرز الشخصيات السياسية في حزب الاستقلال ؛ فهوأول رئيس لاتحاد كتاب المغرب والمدير المسؤول عن جريدة العلم وأحد أعضاء أكاديمية المملكة المغربية ورائد من رواد الرواية المغربية وأحد المثقفين السياسيين في المغرب.[3]

لقد اعتمد غلاب وهو يحكي عن حياته في القاهرة على الذاكرة والوجدان والمخيلة، انطلاقا من الحاضر."فبينه وبين الفترة المستعادة والحياة المروية مسافة زمنية لا يجوز أن تكون أحوال السارد قد ظلت على صورتها التي تشكلت بها في الزمن الماضي...ولعل من خصائص جنس السيرة الذاتية خضوعها للتحريف الناجم عن أن كاتبها لا يستطيع إعادة خلق واقع لم يعد قائما؛ فهناك إلى جانب النسيان، الانتقاء والرقابة الذاتية والحياء والغرور والتدخل في إعادة تنظيم الوقائع وغيرها من دواعي التحريف. كل هذا يثبت أن كاتب السيرة الذاتية يتعامل مع واقع مليء بالثقوب والفراغات والبياضات التي لا يكف عن ملئها".[4]

ويشير الباحث إلى أن استعادة عبدالكريم غلاب لفضاء القاهرة مرتبط برؤيته السياسية؛ فمصر في عمل الكاتب السردي فضاء سياسي أكثر منه فضاءا إنسانيا أو ثقافيا.[5] فمصر بالنسبة إلى السارد، وكما تخيلها قبل سفره إليها، كانت فضاء للحرية والفن والأدب والفكر.

كما يشيرإلى أن فكرة السّفر إلى القاهرة أصبحت حلما يراود كل فتى مغربي افتتن بالثقافة المصرية؛ إنه سفر إلى المدينة الحديثة، حيث الشعر والقصة والغناء والسينما والجامعة.[6]

إن الهوى المصري الذي سكن قلب السارد وعقله ، هو حلم ببلد متحرر من الاستعماروالتقاليد البالية، بلد أصيل وعصري تتمثل أصالته في التشبث بالهوية العربية الإسلامية، وتتمثل معاصرته في الأخذ بالنظم السياسية الديموقراطية وبقوانين حرية المرأة وبنظم تعليمية حديثة.

ويرى الباحث أن الساردلا يملك سوى أن يصطنع لهذا البلد صورة مثالية تعبر أولا عن افتتان جمالي وفكري بهذه الثقافة وبأن يصبح يوما ما أحد أقطابها، وتعبر ثانيا عن رغبة دفينة في الهروب إلى فضاء فسيح تسوده قيم الحداثة المفتقدة في الفضاء الضيق الذي يحاصره في مدينة فاس مسقط رأسه. لقد مثلت مصر في هذا السياق صورة للفضاء المثالي البديل عن الفضاء الحقيقي الماثل.[7]

لقد مكّن فضاء مصر للسارد أن يجالس المثقفين المصريين من شعراء وكتاب ومغنين، كما مكنته إقامته الطويلة في القاهرة من مشاهدة المسرحيات في مسارحها والتردد على المكتبات الحافلة بالمصادر والمراجع وعلى دار الأوبرا والجامعة؛ كل هذه العوامل جعلت الهوى المصري يتغلغل في قلبه حتى أصبح حبا مثاليا؛ "هو حب للقيم الجمالية سواء تلك التي تتجلى في الطبيعة، أو تلك التي صاغها صناع الفن والأدب في أعمالهم الساحرة".[8]

وعلى الجملة، فإن السارد يحكي عن سيرته الذاتية في تلك الفترة التي قضاها بمصرمبرزا فضلها عليه حيث تمكن في فضائها من النجاح في المجال الثقافي والسياسي ومواصلة النضال في مطالبة المستعمر بتحرير المغرب وسائر الدول العربية والإفريقية التي كانت تحت سيطرته، والاتصال بجميع الهيئات والجمعيات والصحف العربية والإسلامية، وكتابة مذكرات المطالبة باستقلال المغرب والدول العربية والإفريقية إلى سفارات الدول العظمى ومكتب فرنسا والحكومة المصرية.

وانطلاقا من عنوان الكتاب "القاهرة تبوح بأسرارها"، يتساءل الباحث عن الأسرار التي باحت بها القاهرة في هذا العمل؟ إنها تعني تاريخ الحركة الوطنية في الخارج مما لا يعرفه الناس؛ فالأسرار- إذن- هي تلك الأحداث السياسية التي عايشها السارد أو شارك فيها طوال إقامته بمصر، وليست تلك الأسرار الخاصة بكاتب السيرة. إنه لم يبح بأية أسرارخاصة بحياته خلال إقامته بالقاهرة، ومن ثم نرى أن غلاب قد خيّب أفق انتظار القارئ الذي كان يتوق إلى تعرف أسراره في حياة غيره لأنه لم يجعله يعيش فيها هواه المصري، ولم تستجب لحاجاته ورغباته في تجسيد هذا الهوى في صور تعكس عشق السارد لفضاء القاهرة.

ويرى الباحث أن كتاب عبدالكريم غلاب فيه ملامح جنس المذكرات على الرغم من كونه يتناول جزءا من السيرة الذاتية للكاتب، وذلك لأن الأحداث التاريخية العامة تهيمن على الأحداث الخاصة هيمنة تكاد تكون مطلقة. وإذا كانت السيرة الذاتية تركزعلى الحياة الخاصة لصاحبها، فإن المذكرات تركز على الأحداث الخارجية مما يدل على أن هذا العمل أقرب إلى جنس المذكرات منه إلى جنس السيرة الذاتية.[9]

كما يشير الكاتب إلى هيمنة الوظيفة الإخبارية والوظيفة الخطابية على الوظيفة الأدبية لأن الكاتب كان حريصا على إعلام قارئه وإفادته وتربيته .[10]

وخلاصة القول ، إن الكاتب انتقل من تجربة تصوير الهوى والذات إلى سرد الوقائع والأحداث السياسية والتاريخية التي كانت القاهرة مسرحا لها والانغماس في النضال السياسي .

ب." مثل صيف لن يتكرر" وصورة الذات القوية :

وينتقل الباحث إلى تحليل عمل محمد برادة "مثل صيف لن يتكرر" ، ويرى في هذا العمل أن السيرة الذاتية تمتزج بالتخييل الروائي عبر مراحل مختلفة تمتد من يوليوز 1955 إلى فبراير 1998، أي منذ أن حلّ بمصر لأجل الدراسة إلى تلك الزيارات الثقافية المتكررة في مراحل متفاوتة في الزمن، مما يعكس ذلك الهوى المصري الذي تجذرفي كيانه منذ زمن بعيد.

ويشير الباحث إلى أن الكاتب قد سخّر في صياغة هذا العمل كل ما يدّخره من رصيد الكتابة القصصية والروائية والنقدية والسياسية. ولعل الرغبة االروائية والتخييلية تعلن عن نفسها في هذا العمل بشكل صريح؛ فالمؤشرات الدالة على أنه عمل سردي تبرز من خلال غلاف الكتاب الذي يشير إلى النوع الأدبي الذي ينتمي إليه هذا العمل"محكيات"، أو العنوان الفرعي الذي يصدر به هذه المحكيات: "ثقوب لا تكف عن الامتلاء"، أو السرد بضمير الغائب وباسم مستعار(حمّاد) ثم الانتقال إلى السرد بضمير المتكلم في مرحلة أخرى من مراحل سيرة الكاتب بالقاهرة.[11]

ويرى الباحث أن "محكيات" محمد برادة تصورتأثير الهوى المصري في وجدان فتى مغربي وعقله، كما تصور تاريخ هذا الهوى في مخيلة المغربي في أطوار مختلفة من حياة السارد ووجدانه وعقله في ثلاثة أطوار زمنية متداخلة: طور الحلم بالسفر، وطور الإقامة والاندماج والذوبان في فضاء القاهرة، وطور العودة المتكررة إلى مرابع الصبا وأرض الأحلام.[12]

ولعل السارد في هذه المحكيات يهدف إلى تقديم صورة نموذجية عن نفسه وعن حياته في بلد كان معظم المغاربة يحلمون بالسفر إليه في حقبة مهمة من تاريخ تشكل الشخصية المغربيةالحديثة.

لقد صور عمل محمد برادة شخصية"حمّاد"، تلك الشخصية التي تمتلك سمات خاصة كالشجاعة، والجرأة، والحرية، والمغامرة. إن "حمّاد" يتسم بسمات التحرر الخلقي والاجتماعي. فقد انغمس في اللذات الحسية واتسمت علاقته بالمرأة بالحسية والدونجوانية، فربط علاقات عديدة مع نساء اللذة العابرة، وارتبط مع نساء أخريات بعلائق ملتبسة. جمع "حمّاد" بين الجد والهزل منذ نعومة أظفاره، وكان معاقرا للخمر ومدمنا القراءة في الوقت نفسه. صال وجال في القاهرة ، فأصبح فارسا حقيقيا، واستطاع إثبات ذاته باعتباره طالبا جامعيا واعدا، ثم أستاذا فيما بعد، حين أسهم في تكوين أجيال من الطلاب المغاربة الذين شكلوا النواة الأولى للحركة الثقافية في المغرب إبان السبعينات والثمانينات والتسعينات. وأصبح ناقدا أدبيا يمثل المغرب في كل المؤتمرات العربية والدولية.[13]

لقد استوحى "حمّاد" مغامراته الجنسية من أبطال السينما المصرية التي أدمن مشاهدتها منذ طفولته في فاس، فتعددت مغامراته مع النساء كلقائه ب"فوزية" وكأنه لقاء يجسد رغبة قابعة في الوجدان.[14] ولم تنقطع مغامراته النسائية حتى بعد أن أصبح أستاذا جامعيا ومثقفا عربيا بارزا. إنها تجارب و"علاقات جنسية بررها الكاتب بخبرته السابقة الممعنة في الحسية مع المرأة وبانجذابه إلى فضاءات القاهرة السرية" [15]

إن لجوء السارد إلى علاقاته الغرامية مع النساء دفع الباحث إلى التساؤل حول أهمية سرد علاقات حمّاد العابرة مع نساء اللذة، والتساؤل عن الفائدة التي يجنيها الكاتب حين يلجأ إلى التصوير الجنسي الفاضح لامرأة مازوشية، أوحين يحكي عن مكالمة تليفونية لتلميذة في سن الخامسة عشرة تطلب من حمّاد ممارسة الجنس في إحدى زياراته المتأخرة لمصر. والإجابة عن هذه التساؤلات يقدمها الكاتب نفسه باعتباره كاتبا حداثيا ينتسب إلى فئة الكتاب العرب الذين وظفوا الجنس في نصوصهم الإبداعية وأولوه ما يستحقه من أهمية. ويتجلى غرضه من ذلك أن يكشف عن المستور، وينتقد مظاهر التظاهر بالفضيلة المزيفة. وعلى هذا النحو، يكون من وظيفة الإبداع الأدبي الكشف عما يجري في الخفاء ومن وراء حجاب أوكما عبر عنه الباحث"تحت السطح" مما لا يعترف به الخطاب الثقافي الرسمي.[16]

لقد مضى الكاتب في نسج فضاء للقاهرة مغاير لتلك الفضاءات التي صورتها السينما المصرية أو روايات إحسان عبدالقدوس أو يوسف السباعي، فعمد إلى تصوير فضاء القاهرة السرية أو مجاهل القاهرة الأخرى التي لا نكتشفها إلا في النصوص الإبداعية.[17]

ويتساءل الباحث في نهاية التحليل: هل استطاع السارد أن يصوّر للقارئ سيرة شخص سافر إلى القاهرة من أجل الدراسة؟ هل تمكن من رسم صورة عن الحياة العلمية والثقافية التي ربطته بأساتذة وكتاب مرموقين في مصر؟ هل تمكن من تصوير الأشخاص العاديين في المجتمع المصري الذين من المفترض أن يكون قد اختلط بهم؟

يجيب الباحث قائلا إن ما سرده الكاتب من صور القاهرة لا يستجيب بشكل واسع لتوقعات قارئ(مفترض) مصاب بالهوى المصري.

وفي النهاية ينتهي الباحث إلى أن هذا العمل تجاذبته أغراض متعددة: كالغرض الأدبي والإنساني الذي تجلى في كثير من الصور السردية العالية الإحساس، وتسويق هذا العمل واستهلاكه بحكم أن كثيرا من القراء يقبلون على قراءة السير الذاتية لما فيها من سرد لمغامرات الكاتب الحقيقية، وحرصه الشديد على تقديم مادة مغرية، باعتباره أحد المثقفين المغاربة الأكثر شهرة في العالم العربي.[18]

ج. "المصري" واالدلالة التخييلية:

إن رواية "المصري" لمحمد أنقار ، تسرد قصة أحمد السّاحلي الذي يطمح إلى أن يخلّد مدينته تطوان المغربية من خلال كتابة رواية، مثلما خلّد نجيب محفوظ مدينة القاهرة؛ فأحمد الساحلي شخص عليل، أشرف على التقاعد بعد اشتغاله بالتعليم مدة طويلة. دفعته رغبة قديمة إلى كتابة رواية عن مدينته قبل انصرام الأسبوع الأول من بداية تقاعده، مخافة أن يموت بعد أسبوع من إحالته على المعاش. ومصدر مخاوفه صديقه عبدالكريم الصويري الذي وافته المنية بعد مضي أسبوع على تقاعده، وهو يخشى أن يلقى المصير نفسه الذي لقيه صديقه، فاستبد به الخوف من الموت، وأخذ يتسابق مع الزمن لأجل كتابة روايته، وتحقيق مشروعه الروائي ، باذلا كل ما في وسعه لتحقيق حلمه بكتابة رواية شبيهة بإحدى الروايات التي كتبها نجيب محفوظ. لكنه سيشعر بالعجز عن تنفيذ مشروعه الروائي، ولم يبق له في النهاية سوى الإقرار بالهزيمة وانتظار الموت.

تبرز هذه الرواية كيف أصبح الهوى المصري مكونا سرديا يسهم في بلاغة النص وتكوين دلالته. ولقد تجسد هذا الهوى في حب الساحلي لتلك الشخصيات المصرية التي تجسد بالنسبة إليه القوة والحرية والحب وكل القيم المثالية التي تشبع حاجاته الروحية كنجيب محفوظ وعايدة بطلة الثلاثية وأستاذ علم النفس المصري و سيدة الطرب العربي أم كلثوم.

ويشير الباحث إلى أن رواية محمد أنقارتصور الحلم المشرقي من منظور شخصية تطوانية مخصوصة؛ فالسفر إلى مصر كان حلما ثقافيا وأداة لجلب المجد في الوقت نفسه. كما تمثل قصة نشوء الحلم المشرقي وبداية الهوى المصري عند فئة عريضة من المغاربة الذين تفاعلوا مع الإبداع الأدبي والفني الوافد من الشرق.

دلالة العنوان:الهوية المنفتحة

يرى الباحث أنه يمكن النظر إلى عنوان الرواية "المصري" باعتباره دلالة على الهويَة المنفتحة؛ فالرواية تعكس الهيام بنجيب محفوظ وبالثقافة المصرية، وعنوانها سمة دالة على توق الساحلي إلى فضاء آخر وأناس آخرين مما دفعه إلى التفكير في كتابة رواية مستوحاة من الفضاء المصري؛ فنشوء هذه الفكرة حدثت عن طريق التواصل الثقافي الذهني وتعرف أحمد الساحلي فضاء القاهرة بواسطة التخييل السردي الروائي. إنه لا يستطيع كتابة رواية إلا بالاعتماد على مخزونه من النصوص الروائية التي ترسبت في ذهنه بواسطة إدمانه قراءة الروايات وخصوصا روايات نجيب محفوظ. إن الرواية باختصار هي الجنس السردي الذي يعبر فيه الكاتب عن تجربة الاكتشاف والانفتاح والتفاعل والتواصل مع فضاء آخر وثقافة مغايرة.[19]

تأثير نجيب محفوظ في الوجدان المغربي

إن أحمد الساحلي معجب بنجيب محفوظ إعجابا شديدا ، مفتتن به إلى درجة الهيام. لقد قرأ كل كتبه، وحفظ تفاصيل رواياته؛ عناوينها وأسماء أبطالها ومواقع حوادثها، كما كان يتتبع حياته الشخصية كتدخينه الشيشة، ونوع أكلته المفضلة.

ولقد أوصلته الفتنة بنجيب محفوظ أن اقترف حماقات كشفت في النهاية مدى التأثير الذي أحدثه هذا الروائي المصري في الوجدان المغربي؛ فقد بلغ به الهيام بعايدة بطلة الثلاثية أن شكاه لصديقه عبدالكريم وقرأ له رسالته المتأججة عشقا وعذابا.

كان السارد يرى في نجيب محفوظ، باعتباره ظاهرة أدبية وثقافية تستحق التأمل، لغزا بشريا محيرا، ويتعجب من غزارة إنتاجه القصصي والروائي ومن قدرته الهائلة على سبر أغوار شخصياته المتباينة في انتمائها الاجتماعي والثقافي، ويتساءل عن السر في النجاح الباهر الذي حققته رواياته.

وإذا نظرنا إلى رواية "المصري" باعتبارها خطابا واصفا للإبداع الروائي، لمسنا شغف أحمد الساحلي بنجيب محفوظ والرواية المصرية ولمسنا من خلاله شغف جيل كامل من المثقفين المغاربة بإبداع هذا الروائي العبقري الذي أصبح نموذجا يحتذى في الكتابة الروائية. غير أنه رغم ذلك، أخفق في كتابة رواية. إن هذا الإخفاق لايجسده أحمد الساحلي وحده بل يجسده كل الروائيين المغاربة الذين عجزوا عن كتابة رواية تحقق القيمة الأدبية التي حققها نجيب محفوظ. "إن هذا الإخفاق يدعو القارئ للتفكير في الأسباب التي جعلت الروائي المغربي بشكل عام لا يترجم ارتباطه الوجداني بالثقافة المصرية وحبه لعالم روايات نجيب محفوظ إلى إبداع روائي مغربي يحمل سمات هذا العالم الفاتن. لماذا انحصر تفاعل المخيلة المغربية بروايات نجيب محفوظ في الوجدان والتعلق العاطفي والدراسة النقدية دون الإبداع الفعلي؟"[20]

الإخفاق

ولعل الإخفاق في الكتابة يتجسد في الفصل الأخير من رواية المصري المعنون ب"الغروب" الذي يعني الفشل في تحدي الموت، ويأس السارد من الحياة، والتأهب للموت. وذلك عبر مؤشرات دالة تشير إلى ذلك، كتصوير الكاتب لأحمد الساحلي وهو يلبس البياض كأنه لفّ في كفن أو التفاتته إلى ضريح سيدي "المنظري" باني مدينة تطوان أومخاطبته للضريح بقوله "هاهي أمانتك الوديعة أردها إليك... لست في مستوى الأمانة... أنت بنيت المدينة وكان لك مجد البناء وأنا عجزت عن وصف ما بنيت... وأقسم بالله العظيم أني كنت مخلصا في نيتي وتجوالي وسعيي... وقبل هذا وذاك كنت مخلصا في حبي... أرجو المعذرة فأنا لست أول ولا آخر الفاشلين..."[21]

ويتمثل صراع الساحلي التخييلي في كونه يمتلك معلومات عن مدينته الى درجة التدفق، غير أنه لا يمتلك القدرة على صنع صور محبوكة كتلك التي يقدمها نجيب محفوظ في رواياته. إن هذا الصراع يعد سمة من سمات رواية "المصري" وبلاغتها في التعبير عن رؤيتها وكأن الكاتب يريد أن يلفت نظر القارئ إلى أن هذه الرواية مخادعة تحتاج منه أن يتسلح باستراتيجية للقراءة ليدرك أنها ليست رواية توثيقية كما قد يتوهم بل اختارت الاتجاه الجمالي الواقعي المفعم بالجمال والفن.

كما يشير الباحث إلى أن السارد أحمد الساحلي صارع النمط الشاعري الذي مثله الأديب المغربي ابن مدينة تطوان "محمد الصباغ" باعتباره يقدم في كتاباته لوحات تجريدية في كتابه "تطوان تحكي"؛ وهذا النمط الشاعري يرفضه الساردلأنه يهدف إلى تحقيق مشروع روائي ضخم مستوحى من تجربة نجيب محفوظ الروائية.[22]

رواية المصري والنقد الاجتماعي

ولعل رواية المصري تسعى إلى تصوير أنماط من السلوك الاجتماعي والأخلاقي والثقافي المتوارث عبر تاريخ متطاول من الزمن؛ في المأكل والملبس والتفكير والعلاقات الاجتماعية وغير ذلك. وعلى هذا الأساس يمكن أن نلمس نقدا اجتماعيا لمظاهر سلوكية واجتماعية تميز المجتمع التطواني. والرواية - في الوقت نفسه- تنتقد الهوية المنعزلة. وقدأشار الباحث إلى "أن "المصري" في أحد أبعادها نقد ساخر للهوّية المنعزلة المتشبثة بتاريخ متوهم، إذ تسرد الرواية سيرة شخصية هائمة بالإنسان وبالمغامرة وبالرحلة وبالانتقال الجغرافي إلى فضاء آخر وبالانفصال عن فضاء متحجر ونقاء وهمي إلى حيث التلاقي والتفاعل وتخصيب الطاقات".[23]

ويرى الباحث أن "رواية أنقار دعوة إلى تواصل أصيل مع تراث نجيب محفوظ الذي ينبغي الاحتفاء به ووضعه في الاعتبار الحقيقي الذي كادت تطمسه المواقف الإيديولوجية والسياسية التي هيمنت لفترة طويلة على علاقة ثقافتنا المغربية بهذا المبدع الإنساني، كان الخاسر الوحيد فيها هو المثقف المغربي الذي أضاع نموذجا أصيلا وصورة ملهمة محفزة"[24]

وتسعى هذه الرواية من خلال سياقها العام وموضوعها المتمثل في طموح السارد إلى كتابة رواية عن"تطوان" بإيحاء مصري، إلى إبراز أن الثقافة نتاج يقوم على التواصل والتفاعل بين شعوب وأفراد من بيئات مختلفة. وهكذا استوحى من رواية "القاهرة الجديدة" موضوعه لكتابة روايته. و يصور على لسان السارد لحظة قراءته لهذه الرواية والإحساس الذي تملكه بعد القراءة بأنها ولادة جديدة.[25]

وفي سياق آخر تحكي هذه الرواية قصة العلاقة بين الثقافتين المغربية والمصرية، كما تدعونا الرواية إلى تأويل قصة الرواية في سياق التواصل الإنساني والثقافي بين الشعوب. وهكذا يتجلى أن حب الثقافة المصرية كانت سمة مشتركة بين معظم القراء المغاربة الذين عاشوا زمن توهج هذه الثقافة وقيادتها للعقل العربي.[26]

وتبرز الأعمال السردية الثلاثة التي حللها الباحث "القاهرة تبوح بأسرارها" و"مثل صيف لن يتكرر" و "المصري" مدى الارتباط الوثيق بين المغرب ومصرومدى تأثير الثقافة المصرية في الثقافة المغربية. كما تظهر ذلك الحلم المشرقي الذي كان معظم المغاربة يتوقون إلى تحقيقه؛ وهكذا تشكل الهوى المصري في وجدانهم وأصبح مسيطرا عليهم؛ فحقق بعضهم هذا الحلم عن طريق السفر الفعلي إلى مصروالمعاينة الحقيقية لفضاءات القاهرة ولم يتحقق لآخرين هذا السفر الفعلي، بل كان سفرا ذهنيا بواسطة التخييل. كما مثلت الثقافة المصرية لهم مأوى يلوذون به في تحقيق ذواتهم ومصدرا يستلهمون نماذجه ويحاكونها.

1. تواصل الشعوب موضوعا تخييليا:

يتناول الكتاب تأثير الثقافة المصرية في وجدان الإنسان المغربي، كما جسدته مخيلة ثلاثة كتاب مغاربة؛ أي إن موضوع هذا الكتاب هو هذا التأثير على نحو ما صاغه الخطاب الأدبي؛ التأثير ليس باعتباره حقيقة تاريخية وواقعة موضوعية ولكن باعتباره خطابا تخييليا أو صورة سردية . من هنا كان على الباحث أن يواجه موضوعه مستخدما أدوات مستمدة من البلاغة والنقد الروائي ما دامت الساحة التي يواجه فيها هذا الموضوع هي ساحة التخييل والأدب؛ أي النظر إليه باعتباره مكونا تخييليا.

2.البلاغة والتأويل :

يستخدم الباحث مفاهيم البلاغة بمدلولها التخييلي كما استخدم مفاهيم تأويلية مستعارة من نقد الجنس الروائي ونظرياته، كمفهوم " الرغبة المثلثية" التي تميز البطل الروائي عند روني جيرار، ومفهوم "الرواية العصابية "الأسرية التي تشكل الأصل النفسي لكل رواية حديثة كما صاغته مارت روبرت ، ومفهوم " الهوية المنفتحة والمتعددة" التي تسم الجنس الروائي باعتباره يقوم على التفاعل اللغوي والثقافي، كما صاغها إدوارد سعيد في كتابه : "الثقافة والإمبريالية".

3.أبعاد خطاب المنهج:

يتميز الخطاب النقدي في هذا الكتاب بابتعاده عن النقد النظري أو عن نزعة الإلحاح على المنهج والمفهومات النظرية التي عادة ما يفيض الباحثون في استعراضها باعتبارها آليات يتبنونها في مقارباتهم النصية، بحيث تتحول النصوص إلى مجرد شواهد وحجج على مصداقية تلك الآليات. إننا هنا لا نواجه منهجا صريحا أو معلنا يدافع عنه صاحب الكتاب بقدر ما نواجه الأعمال الأدبية نفسها، إذ يعمل الباحث على تحليل خطابها السردي متوخيا الكشف عن صيغ حضور تأثير الثقافة المصرية في وجدان الشخصيات السردية ودلالات ذلك الحضور. وكأن الباحث غير معني بالأدوات المنهجية بقدر عنايته بالتوغل في العوالم التخييلية لتلك النصوص وسبر طاقاتها البلاغية على تصوير موضوع تاريخي وحضاري وثقافي واجتماعي.

ولا شك أن عنوان الكتاب:" الهوى المصري في المخيلة المغربية " بقدر ما يوحي لقارئه بالابتعاد عن العناوين النظرية والمنهجية الصريحة، يتكشف عند القراءة والتأمل عن منهج وتصور نقدي وأدوات تحليلية. وهذا يدل في واقع الأمر على سمت مطلوب في الكتابة النقدية العربية، ذلك السمت الذي ينادي بأن يكون النقد إبداعا فكريا كما أوضح الباحث في كتاباته النقدية السابقة.



محمد مشبال، الهوى المصري، قراءات في السرد المغربي الحديث، منشورات بلاغات، ط1، 2007[1]

نفسه، ص 53.[2]

نفسه، ص 55.[3]

نفسه، ص 53-54.[4]

نفسه، ص 55.[5]

نفسه، ص 60.[6]

نفسه، ص 64.[7]

نفسه، ص67.[8]

نفسه، ص 72.[9]

نفسه ص73.[10]

نفسه، ص77-78.[11]

نفسه، ص 78-79.[12]

نفسه، ص 82-83.[13]

نفسه، ص 83.[14]

نفسه، ص 84.[15]

نفسه، ص 85.[16]

نفسه، ص 86.[17]

نفسه ص 89.[18]

نفسه، ص 169-170.[19]

نفسه، ص171-172.[20]

نفسه، ص154-155.[21]

نفسه، ص 142-143.[22]

نفسه، ص168.[23]

نفسه، ص 145.[24]

نفسه، ص 118-119.[25]

نفسه ص 165-166.[26]


عبدالواحد التهامي العلمي


حوار مع الدكتور محمد مشبال


يعتبر الدكتور محمد مشبال من بين الأسماء المنشغلة بالسؤال الثقافي والأكاديمي بالمغرب، إذ استطاع عبر تجربته في هذا المجال إنجاز مجموعة من الكتب الهامة، نذكر منها: " مقولات بلاغية في تحليل الشعر"،" بلاغة النادرة"، "أسرار النقد الأدبي"، "البلاغة والأصول"، إضافة إلى كثير من الأبحاث والدراسات النقدية في مجلات عربية إلى جانب إشرافه على الأطاريح الجامعية في هذا المجال، ومشاركاته في ملتقيات علمية بالمغرب وخارجه، عكست انشغاله الجدي بإضفاء طابع التنوع على إجابات البحث العلمي بالمغرب.

وبالنظر إلى هذه المكانة التي يشغلها التقى به الأستاذ حسن اليملاحي على هامش مشاركته في أشغال ندوة جماليات التأويل بمدينة القصر الكبير وأجرى معه الحوار التالي.

I ـ سؤال الدرس البلاغي

س 1: تعززت المكتبة النقدية المغربية والعربية بمجموعة من إصداراتكم (مقولات بلاغية ـ أسرار النقد الأدبي ـ بلاغة النادرة-البلاغة والأصول) إضافة إلى مجموعة من المقالات والدراسات والترجمات والحوارات. والمتتبع لهذه الإصدارات يلاحظ أنها تخضع لإستراتيجية نقدية متميزة في مجال النقد الأدبي العربي الحديث. هل يمكن للدكتور محمد مشبال تقريب القارئ من الخلفية الفكرية التي يتأسس عليها هذا النقد؟ومن جانب آخر هل يمكن الحديث عن تحقق استجابة تاريخية لهذه الانشغالات؟

ج- محمد مشبال:أشكرك في البداية على اهتمامك بكتاباتي وحرصك على إذاعة أفكارها وتوصيلها إلى القراء الذين لم تتح لهم فرصة التواصل معها أو تعرُّف صاحبها.فلاشك أنك بهذا الحوار تحقق نوعا من الاستجابة التاريخية-كما وصفتها في سؤالك- لهذه الكتابات التي بدأت في الظهور منذ بداية التسعينات.ولكني أريد أن أنبه منذ البداية إلى أن أي حديث عن مؤلفاتي ينبغي أن يأخذ في الحسبان الدائرة العلمية التي انبثقت منها؛ وأنا لا أقصد هنا الروافد التي شكلت ثقافتي النقدية وصاغت رؤيتي للأدب منذ وقت مبكر، بل أقصد المشروع النقدي الجماعي الذي صدرت عنه تلك المؤلفات.فالأهم في هذه الكتابات-في تقديري- أنها تسهم في بلورة تصور نقدي متكامل الوسائل والغايات؛ تصور يتوخى أصحابه أن يمثل شخصيتهم وإبداعهم الفكري الخاص، مستعيدين موقفا حضاريا أعلنه ابن سينا وحازم القرطاجني عندما طالبا الناقد العربي بضرورة الاجتهاد والابتداع وعدم الاكتفاء بالنقل من الثقافة النقدية اليونانية(أو الغربية)؛ فحسبنا-كما ورد في كلامهما- أن نتدبر الشعر(أو الأدب) العربي لنضيف إلى ما وضعه أرسطو( أو النقد الغربي) من قوانين نقدية استمدها من تدبره للشعر اليوناني(أو الأدب الغربي).

هذا الدرس المستفاد من موقف النقد العربي القديم عندما وجد نفسه في وضعية التواصل مع النقد اليوناني، هو الذي كان على النقد العربي الحديث أن ينتفع به عندما واجه وضعا مماثلا منذ عصر النهضة حتى الآن.غير أن هذا لم يتحقق إلا في حدود دنيا، وظل النقد العربي الحديث يجتر أفكار نظيره الغربي من دون أي اجتهاد حقيقي، وكاد يصبح مجرد نسخة مشوهة وباهتة له، لولا-لحسن الحظ-أن بعض النقاد العرب كانت لهم من الإرادة الصادقة والثقافة الواسعة والذهن الثاقب والإبداع الفكري ما جعل تلك الأفكار المستعارة تذوب وتنصهر في شخصيتهم المتميزة والقوية.فإذا استثنينا بعض النقاد الرواد أمثال طه حسين وأمين الخولي ومحمد مندور وشكري عياد وعز الدين إسماعيل..، وفئة قليلة من النقاد المعاصرين في مصر والسعودية وتونس والمغرب، فإن معظم الكتابات النقدية العربية الحالية تجري عليها صفة النسخ المشوه الذي أشرت إليه.ويبدو أن تزايد عدد المجلات النقدية والأدبية ذات التوجه الحداثي في السنوات القليلة الماضية قد أوجد حاجة إلى الدراسات النقدية لملء صفحاتها، مما نتج عنه تزايد ملحوظ في أعداد الممارسين للنقد والبحث الأدبي من دون أن يستوفي-معظمهم- ملكة النقد وشروط الكتابة.

وعلى الرغم من أنني مثل غيري من الباحثين الذين التحقوا بالجامعة المغربية في بداية الثمانينات،ووجدوا أنفسهم أمام خيار قاهر هو الانخراط الواجب في المناهج النقدية الغربية إن هم أرادوا صناعة مستقبلهم النقدي، إلا أن علاقتي بهذه المناهج اتخذت منذ البداية صيغة الدرس المتسائل والبحث المتشكك والتأمل النقدي.لقد كنت مثل أي قارئ يستهويه العمل الأدبي فيقبل على كتاب نقدي يبصره بمنابع الجمال التي يقصر إدراكه الغض عن بلوغها؛ولكنني في معظم الأحيان الآن لا أجد هذا النقد الذي مازالت فتنة بعض أعماله تتردد أصداؤها في وجداني مثل أي عمل فني ساحر.وكان مطلوبا مني شئت أم أبيت-في هذا الطور الجديد من أطوار حياتي- أن أصفي الحساب مع هذه الأعمال وأن أنظر إليها باعتبارها جزءا من تاريخ النقد الذي فقد فعاليته في ظل الصعود القوي لاتجاهات النقد الحداثي ومناهجه.كان علي باختصار أن أنخرط في هذه الموجة المتصاعدة من النقد الأدبي دون أن أبدي موقفا أو أناقش رأيا.في هذه اللحظة من تاريخ ثقافتنا الأدبية تنزلت بعض الأفكار منزلة البدهيات غير القابلة للمناقشة أو منزلة الثوابت المسلم بها:

-تحويل المنهج إلى ما يشبه الشيء المقدس.

-الالتزام بالمنهج الواحد وعدم خلطه بالمناهج الأخرى.

-الدعوة إلى علمية النقد والابتعاد عن الذاتية.

-رفض التقييم في العمل النقدي.

وغيرها من مرتكزات الممارسة النقدية العربية الحديثة التي بات ضروريا-في تقديري- زحزحتها وتفكيكها لأجل خلق ممارسة نقدية تؤمن بالخلق والاجتهاد والابتداع.إن الناقد مطالب اليوم بالتحرر من سلطان هذه الأفكار والنزوع نحو المغامرة النقدية والتفاعل الخلاق مع الأدب. لقد صار النقد عندنا منظومة من القواعد وصيغا جاهزة للتطبيق، ولم يتم تصوره باعتباره ميدانا للتفكير في الأدب والحياة والمجتمع والإنسان.

وفي واقع يتسم بنقل جهود الآخرين أصبح من السهولة ممارسة التنظير، وهو الأمر الذي يغدو شاقا عندما يقترن مفهومه بخلق التصورات وابتكار الصيغ.ولا ريب أن التنظير بهذا المفهوم لن يتأتى إلا بمواجهة حقيقية للأعمال الأدبية؛فهذه الأعمال هي الميدان الحقيقي للاجتهاد والابتداع الغائبين من خطابنا النقدي.

ولابد أن أقر هنا بأن المشروع النقدي الذي تندرج فيه كتاباتي يسعى إلى استشراف هذا المبدأ الفكري حتى وإن لم يفلح أصحابه في تحقيقه؛إننا ينبغي أن نعترف بأن الخطاب النقدي جزء لا يتجزأ من الحالة الثقافية التي يعيشها الإنسان العربي؛ فأزمته الإبداعية جزء من أزمة الإبداع التي يعيشها هذا الإنسان في كل مجالات الثقافة والحياة.ولأجل ذلك فإن النقاد مطالبون بالإبداع النقدي حتى يسهموا بنصيبهم ليس في الإبداع الثقافي أو الأدبي فقط ولكن في إبداع أساليب الحياة نفسها. من هنا كان من الضروري أن يقف الناقد العربي-إن كان صادقا- وقفة التدبر والتأمل ومراجعة الذات، ولا بأس أن يبدأ من الأسئلة البسيطة: هل ما أكتبه يساعد القراء والأدباء في تنمية وعيهم الجمالي ويعمق قدراتهم على فهم الحياة الإنسانية والرقي بأنفسهم، أم أن ما أكتبه ليس سوى حذلقة ثقافية عقيمة لا تملك القدرة على التواصل مع حاجات المجتمعات العربية الجمالية والاجتماعية؟

إن مشكلة الناقد العربي المعاصر تتمثل في أنه يمارس وظيفته وكأن حقل النقد الأدبي وليد اللحظة التي يكتب فيها؛إنه يكاد يقطع كل صلة له بمنجزات النقد السابق.وإذ يولي ظهره لمكاسب النقد ونظراته الجمالية الثاقبة التي راكمها نقاد كلاسيون أو رومانسيون أو واقعيون، فإن ارتماءه غير الواعي في دائرة المناهج النقدية الحداثية البنيوية وما بعد البنيوية، جعله ناقدا فقيرا وفاقدا لوظيفته وتأثيره.وإنك لتستطيع أن تلاحظ معي أن معظم النقاد الذين يمتلكون اليوم القدرة على التواصل مع القراء هم الذين تمثلوا منجزات النظريات الحديثة معتمدين على رصيد مكين في الثقافة النقدية المتراكمة تاريخيا، وعلى رصيد ذخيرتهم الأدبية والحياتية، ويمتلكون-بالإضافة إلى ذلك- رؤية للثقافة والحياة.

أستطيع القول بعد هذا إن هذا الوعي جعلني أميل إلى بعض النقاد والباحثين وأزوَرُّ عن آخرين على الرغم من أنهم قد يكونون أكثر انتشارا وشهرة، ولكنهم لا يستجيبون لطموحي النقدي.وبالمعنى نفسه أستطيع القول أيضا إن المشروع النقدي الذي صغت في سياقه كتاباتي لم يحقق حتى الآن أية استجابة أو تفاعل خارج الدائرة الضيقة لمجموعة من الباحثين الذين أنجزوا أطاريحهم في كلية الآداب بتطوان حول الصورة الروائية بإشراف الدكتور محمد أنقار. قد يكون فيما ألفناه من دراسات حتى الآن لم يحقق التراكم العلمي الكافي، أو أن السياق النقدي والثقافي العام الذي قدمت أعلاه بعض ملامحه العامة، لم يهيئ بعد المناخ الملائم لنماء تصورنا وازدهاره، وقد يرجع الأمر في النهاية إلى غياب نقاش حقيقي وتواصل بناء بين المثقفين في الحقل النقدي، وهو ما يفسر الحساسية المفرطة والخصومة الصامتة بين النقاد الذين ينتمون إلى البلد الواحد أو المتجايلين أو الذين لا تربطهم بشكل من الأشكال علاقات نفعية.

وعلى العموم آمل أن نجتهد أكثر في توصيل أفكارنا لعلنا نشارك غيرنا من الباحثين في تغيير ملامح الخطاب النقدي العربي الراهن الذي يعاني مشكلات كثيرة.

س 2: إلى جانب نقاد وباحثين آخرين انطلقوا من كلية آداب بتطوان، تطرح دراساتكم النقدية واهتماماتكم البلاغية نفسها باعتبارها تشتغل على مفاهيم جديدة تسعى إلى تعميق وتحديث النظر في مكونات اشتغال الخطاب الأدبي العربي القديم والحديث. هل يمكن الحديث عن تيار بلاغي جديد بصدد التشكل من داخل تطوان؟

ج-محمد مشبال- بإمكان القارئ المتتبع للأعمال التي كتبتها أن يلاحظ بسهولة أنها تندرج في حقل البلاغة، لكن ما يجب الوقوف عليه وتعرُّفه هو طبيعة التصور البلاغي الذي تصدر عنه تلك الكتابات.فالبلاغة التي أتحرك في دائرتها تختلف عن البلاغات السائدة قي النماذج البلاغية الغربية أو في الدراسات البلاغية العربية المعاصرة؛ إنها بلاغة تتوخى أن تستوعب الأعمال الأدبية في أنواعها وأشكالها المختلفة؛ بلاغة عامة حقيقية بالمعنى الذي لا يهدر خصوصية البلاغات النوعية أو الخاصة. ولعل جذور هذا التصور توجد في كتابات الشيخ أمين الخولي، ولكن الذي بلور هذا التصور في صيغة مفاهيم هو الأستاذ محمد أنقار الذي تفاعلتُ مع تفكيره النقدي في كل ما كتبت حتى الآن؛ فمفاهيم من قبيل المكونات والسمات والسمات التكوينية والصورة الروائية والصورة المسرحية والصورة القصصية والصورة الكلية وتساند السمات والمكونات والبلاغة النوعية وغيرها، هي مفاهيم صاغها أنقار واعتمدها في بناء تصوره البلاغي للأعمال و الأنواع الأدبية،وقد عملت على الاستفادة منها وإغنائها في دراساتي المختلفة، كما عمل غيري من الباحثين الذين تخرجوا من كلية الآداب بتطوان على توظيفها في كتاباتهم.وإنك لتستطيع القول إننا في كلية تطوان نجتهد لصياغة مشروع بلاغي مختلف. وهناك عدد من الطلاب الباحثين منخرطون الآن في بناء هذا المشروع في إطار وحدة التكوين والبحث"بلاغة النص النثري" التي أشرفُ عليها بصحبة الأستاذين محمد أنقار ومحمد الأمين المؤدب.

س 3: ينخرط الدكتور محمد مشبال في حوارات نقدية مع بعض الأطروحات البلاغية المغربية المعاصرة (أطروحات محمد الوالي، محمد العمري،وحميد لحمداني،ورشيد يحياوي... وآخرين).هل يمكن اعتبار ذلك نوعا من التقييم للدرس البلاغي المغربي؟

ج-محمد مشبال-كان علي في سبيل بناء تصوري للبلاغة وللعمل النقدي وللإبداع الأدبي، أن أتتبع الدراسات العربية التي تتقاطع مع الأفكار والمفهومات التي نتداولها في مشروعنا البلاغي والنقدي المشار إليه، وخاصة الدراسات المغربية التي كانت تنبئ حقا بنوع من الجدة والجدية معا،وقد أسفر هذا التتبع عن طموح إلى إشراك بعض هؤلاء الدارسين فيما كنا نخوض فيه؛لأجل ذلك لم أتردد لحظة في مناقشة كتاباتهم وتقييم أفكارهم، لعلي بذلك أسهم في تحقيق أمرين متداخلين؛ تقديم أفكارهم وأفكارنا للقراء.ولكني –في واقع الأمر- كنت أتطلع إلى ما فوق ذلك، وهو أن أخلق حوارا مباشرا أو غير مباشر بين الأفكار المتداولة في الثقافة الأدبية المغربية.غير أن هذا لم يحصل للأسف الشديد، وظل التواصل بين أفكارنا وأفكار الآخرين يسير في اتجاه واحد.وحتى هذه اللحظة لم يتصد باحث جاد للأفكار التي نتداولها منذ عشرين سنة، على الرغم من الاحترام الشخصي والتقدير العلمي اللذين يكنهما لنا جميع هؤلاء الباحثين الأفاضل الذين ذكرتَ أسماء بعضهم.

والحق أن مثل هذا الحوار مفتقد في الثقافة الأدبية المغربية برمتها، وهو ما يكشف عن أحد أوجه مشكلاتها الكثيرة؛فنحن-على نحو عام- إما نسترفد الآخر الأجنبي ونستند إليه ونتباهى بأفكاره ونعظمها أو -في الجهة المقابلة- نمتح من ذواتنا ونضخمها وندعي لأنفسنا الريادة والسبق والافتراع.وفي الحالتين لا نتبادل الأفكار ولا يقرأ بعضنا بعضا ولا نمنح الفرصة لمن يختلف عنا في التعبير عن ذاته.باختصار إننا لا نتحاور، ربما نخشى على أنفسنا؛ نخشى أن نفقد شيئا عزيزا علينا وهو جوهر ذاتنا التي نريد أن نقدمها للآخرين باعتبارها لسان آدم الذي ليس صدى لأي لسان آخر.ولاشك أن هذا شكل من أشكال الأنانية الثقافية التي تنشأ في بيئات تعاني رواسب الماضي بممارساته المتخلفة؛ ومن بينها ممارسات المثقف السلطوية وتناقضاته وأوهامه وعجزه.

أستطيع القول بكل اطمئنان إن التحاور المشار إليه غائب من الحقل الأدبي عندنا، وهو ما أفسح المجال لأنماط أخرى من أنماط التواصل من قبيل المجاملات التي تغدق على المؤلفات، أو السجالات التي تنشأ-في الغالب- عن أسباب غير علمية.وفي الحالتين لا تجني الثقافة المغربية فوائد تستحق الذكر.وإذا كان غياب التحاور له أسبابه التي أشرت إلى بعضها، فإن حضور المجاملات والسجالات لها أسبابها أيضا؛ إنها ليست-في العمق-سوى دفاع عن الذات و الأنا المتضخمة؛ وبينما تنصرف المجاملات إلى من يسهم في تعزيز الذات وتقوية حضورها، تتوجه السجالات إلى من يختلف معها ويشكل خطرا يهدد وجودها.

وفي تقديري كنت في قراءاتي للآخرين متحاورا أروم التواصل والتفاعل، وكان غيري ممن قرأ مؤلفاتي مساجلا يروم إقصائي لإثبات ذاته وتعزيز سلطته في الحقل الثقافي المغربي.ومثل هذا السلوك الثقافي نراه في ضوء مشروعنا النقدي المتكامل نمطا بدائيا ومتخلفا ينبغي أن يزول لأنه لا مجال للأوهام ولا نفع في التطاحن والمعارك في زمن يخسر فيه المثقف يوما بعد يوم معركة التواصل التي تكتسحها وسائل التكنولوجيا الحديثة.

III ـ سؤال الثقافة:

س 1: تدرسون بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان لمدة طويلة. في ضوء تجربتكم في التدريس والتفاعل مع المستجدات والتحولات التي يشهدها الفضاء الجامعي، كيف تنظرون إلى الدرس الأكاديمي اليوم بالمغرب؟ و هل ترى أن هناك طلاقا قائما بين الجامعة ومحيطها الثقافي، بالنظر إلى محدودية مساهمة الجامعة في إغناء السؤال الثقافي العام.هل يعزى ذلك، في نظركم، إلى الاختلاف في التصورات بخصوص المسألة الثقافية أم أن الأمر تتحكم فيه اعتبارات وإكراهات أخرى؟ وبعبارة أخرى، هل يمكن الحديث عن تحققات تداولية للدرس الأكاديمي بالمغرب؟

ج-محمد مشبال-لا أتفق مع الرأي الذي يقول بالإسهام المحدود للجامعة في إغناء الثقافة العامة؛فمعظم الدراسات النقدية المنشورة التي تناولت الرواية والقصة والشعر والنقد في المغرب هي في الأصل رسائل أو أطاريح جامعية.كما أن معظم النقاد والدارسين الذين تملأ أسماؤهم صفحات الملاحق الثقافية والمجلات هم أساتذة في الجامعات أو طلاب باحثون.صحيح أن مناهج الدرس في شعب الأدب العربي بهذه الجامعات قامت منذ البداية على درس تاريخ الأدب العربي وعلى اعتماد نصوص لا يتجاوز تاريخها بدايات حركة التحديث في الأدب والنقد مما أعطى الانطباع بانفصال الدرس الأكاديمي عن واقع أسئلة الثقافة العامة، إلا أن الجامعة المغربية لم تعدم مع ذلك أساتذة باحثين مجتهدين حرصوا على مواكبة الإبداع الجديد في مجال الأدب والنقد وفتحوا الجامعة على الواقع الثقافي والأدبي المتجدد، وكانوا يسهمون في إغناء الثقافة المغربية.بل إن هؤلاء اضطلعوا بدور مزدوج؛فهم أكاديميون بالإضافة إلى أنهم فاعلون ثقافيون في الهيئات والجمعيات العمومية.وربما كان الوضع الثقافي في المغرب مختلفا عن بعض البلدان العربية الأخرى حيث لا توجد فيه قاعدة واسعة لناشطين ثقافيين غير جامعيين.

وبهذا المعنى لم يوجد انقطاع حقيقي بين الدرس الأكاديمي وبين تحققاته التداولية، إلا في أوساط الدارسين الجامعيين الذين رفضوا المناهج الحديثة ولم ينفتحوا على اللغات والثقافات الأجنبية ورفضوا حركة التحديث في الأدب والنقد الغربيين.

س 2: تقوم بعض الهيئات وجمعيات المجتمع المدني (اتحاد كتاب المغرب...) بدور قوي في مجال إغناء الخطاب الثقافي المغربي في أفق الإجابة عن انتظارات الثقافة المغربية. باعتباركم أحد المنشغلين بالسؤال الثقافي المغربي كيف تنظرون إلى ما تراكم حتى الآن من منجز ثقافي نظرية وممارسة؟

ج-محمد مشبال-إذا حصرنا حديثنا في هيئة " اتحاد كتاب المغرب"؛ فمن الإنصاف القول إنها قادت حركة الحداثة النقدية والأدبية في المغرب وخلقت كتابا ونقادا انتشر صيتهم في العالم العربي.وأعترف أنني مدين في تكويني النقدي المبكر إلى ما كانت تنشره مجلة أفاق من دراسات نقدية جديدة لم أكن قد تعودت قراءتها في مجلات عربية مشرقية.فقد قرأت لنقاد ومبدعين أسهموا في إغناء الحركة الأدبية والنقدية المغربية أمثال إبراهيم الخطيب ومحمد برادة وقمري البشير ونجيب العوفي وبنعيسى بوحمالة وعبد الحميد العقار ومحمد السرغيني وعبد القادر الشاوي وعز الدين التازي وأحمد المديني ومحمد زفزاف ومحمد الهرادي وغيرهم.

صحيح أن الجامعات المغربية أسهمت بعد ذلك في تنشيط الحياة الثقافية المغربية بظهور جيل جامعي جديد من الدارسين في مجالات مختلفة، لكن اتحاد كتاب المغرب ظل يمارس دوره بحماس شديد ونجح في إقامة ندوات عربية عن الرواية والقصة القصيرة وموضوعات أخرى لا تزال مرجعا قويا للدارس العربي حتى الآن. لكن يجب القول –مع ذلك- إن فروع هذه الهيئة ليست على درجة واحدة من النشاط؛ فبعضها متألق بينما يغط بعضها الآخر في السبات ولا يقوم بالدور الثقافي المنوط به.

والحق أنني أميل إلى أن تكون هناك تعددية في الهيئات والجمعيات العمومية حتى يحصل تنافس حقيقي في حياتنا الثقافية.

س 3: تخصص بعض المؤسسات جوائز تشجيعية لتتويج الإصدارات في مختلف فروع المعرفة. بالنسبة إليكم، ما الذي يمكن أن تمثله الجائزة في حد ذاتها؟ وماذا عن معايير الاختيار؟

ج-محمد مشبال-في الحقيقة أتمنى لكل من يشتغل في الحقل الثقافي بصدق ومثابرة أن يحصل على الجائزة.لأن العمل في هذا الحقل شاق لا يدر على صاحبه في أحسن الأحوال سوى إحساس ذاتي بنشوة إنجاز عمل فكري سرعان ما تسلمه للتأمل في عمل آخر؛ وهكذا تتجسد حياة المثقف في سلسلة من الأعمال يفضي بعضها إلى بعض دون أن يكون لها أي صدى-في معظم الأحيان- خارج الحدود الضيقة للنخبة المثقفة التي قد تتقلص أحيانا لتنحصر في مجموعة من الطلاب والباحثين الذين يشاركون صاحب العمل انشغالاته.فالجائزة في مثل هذا السياق قد تكون مناسبة –مادامت تعني مبلغا ماليا- لتعلن للناس العاديين أن الثقافة ليست مجرد ترف أو حذلقة، بل إنها شيء ثمين بالمعنى الحسي.

إن من حق كل من يعمل في المجال الثقافي أن يطمح إلى الجائزة، وأتمنى أن تكثر الجوائز وأن يحصل عليها كل مبدع ودارس أخلص في عمله.وأما عن معايير الاختيار؛فلا أظن أن الإبداع الجيد والدراسات الجادة يمكن أن تكون موضع اختلاف إذا استبعدنا من معايير التقييم الأهواء الشخصية والمعايير الإيديولوجية والسياسية وغير ذلك مما لا يدخل في حيز التقييم العلمي.

VI ـ سؤال الإبداع:

س 1: تثار بشكل حاد جدا مسألة القطيعة بين النقد والإبداع إذ أن الوتيرة المتنامية في حركية الإبداع لا توازيها دينامية في الحركية النقدية، باعتباركم ناقدا كيف تتصورون علاقة النقد بالإبداع؟

محمد مشبال-أتمنى أن أكون ناقدا بالفعل كما وصفتني؛ إنه حلم راودني منذ فترة مبكرة ؛لأن النقد،كما جاء على لسانك حقا، ينبغي أن يكون حركة ثقافية دينامية تتفاعل مع حاجيات الإبداع والمجتمع.إن للناقد دورا حضاريا؛ فهو يسهم في تطوير الإبداع الأدبي عندما يرشد المبدع إلى بعض التفاصيل الجمالية التي لم يتنبه إليها، على نحو ما يساعد القارئ في تذوق العمل الأدبي وفهمه.إن المبدع الذي لا يقرأ النقد لا يستطيع أن يطور عمله، كما أن القارئ الذي يكتفي بالعمل الأدبي دون النقد سيظل قارئا عاديا لا يستطيع أن يتحول إلى قارئ مثقف يجعل من قراءاته ميدانا للتداول الثقافي.إن الناقد الأدبي فاعل ثقافي مهم في المجتمعات الدينامية؛ وإني أزعم أن الناقد-بهذا المعنى- يكاد ينعدم في دوائر ثقافتنا الأدبية، لأسباب عدة؛ لعل أهمها الفهم الخاطئ للممارسة النقدية الذي ساد في السنوات الأخيرة، حيث شاعت بعض المفهومات النقدية التي تنكرت لوظيفة النقد الأساس المتمثلة في تقييم الأعمال الأدبية.وقد نتج عن ذلك فقدان النقد لوظيفته الاجتماعية والثقافية والحضارية؛إن غياب النقد بهذا المعنى أفسح المجال لانتشار معايير أخرى أصبحت تتحكم في صناعة نجوم الثقافة و الأدب، والأخطر من ذلك تحكمها في إشاعة الأساليب وطرائق الكتابة وترسيخها في أذهان القراء ووعيهم،وتوجيه أذواقهم وأفكارهم.

في سياق هذا الوضع الذي تحول فيه النقد إلى خطاب يتأمل ذاته عبر مرآة الأعمال الأدبية التي تحولت إلى مجرد وسيط في عملية التأمل هذه، تلاشت النصوص الأدبية الجيدة وسط ركام هائل من الأعمال الأدبية المنشورة، كما تلاشى القارئ في هذا اليَمِّ غير قادر على الاهتداء إلى الطريق الصحيح( أو العمل الأدبي الجيد). لقد ولىَّ زمن الناقد المستكشف والمستبصر، الناقد الذي كان يقوم بدور الوسيط بينه وبين القارئ، يعينه على الاختيار والتذوق.باختصار، نعم هناك قطيعة بين النقد والإبداع بالمعنى الذي أوضحته هنا.

(جريدة الاتحاد الاشتراكي ـ المواقع الإلكترونية: دروب ـ إيلاف)

أجرى الحوار حسن اليملاحي

الجمعة، 31 أكتوبر 2008

قراءات في كتب د. محمد مشبال: "بلاغة السرد والشخصية في كتاب: الهوى المصري في المخيلة المغربية" لسليمان الطالي


عن منشورات بلاغات صدر للباحث والناقد الدكتور محمد مشبال دراسة نقدية معنونة ب: "الهوى المصري في المخيلة المغربية: قراءات في السرد المغربي الحديث"(1) بتقديم الأديب والناقد المصري سيد البحراوي وتعتبر هذه الدراسة ـ حسب تقديرناـ إضافة نوعية في حقل الدراسات السردية الحديثة في المغرب لثلاثة عوامل أساسية:

أولا: اختلاف زاوية الرؤية النقدية التي ينطلق منها مشبال نحو مفاهيم من قبيل: البلاغة والصورة عن ماهو سائد في الدراسات السردية الحديثة بالمغرب، فليست الصورة حكرا على الشعر وحده، أو على ضرب مخصوص من أجناس النثر الفني، بل هي تمتد لتشمل كل الأجناس الأدبية والسردية القديمة والحديثة على السواء، ومن ثمة فالرواية بما هي جنس أدبي سردي بامتياز فلها بلاغتها المخصوصة التي تنطوي عليها" صورها الروائية"(2).

ثانيا: اعتماد مشبال على منهج نقدي يقترب من الأعمال الإبداعية ومن"نبض" النصوص للكشف عن خصوصياتها وجمالياتها، لدرجة يتحول فيها النقد إلى إبداع ثان يراهن على التواصل مع أكبر شريحة من القراء.فالمنهج المعتمد في هذه الدراسة على الرغم من أن الباحث لم يصرح به، إلا أنه يستوحي مفاهيمه وآلياته من مناهج أدبية متنوعة ومختلفة: تاريخية واجتماعية ونفسية وفنية وتأويلية.غير أن قناعة الباحث الفكرية والنقدية تجعله غير مقتنع بجدوى تطبيق إحداها حرفيا على النصوص الإبداعية. إن هذا الاتجاه في الكتابة:" يؤكد جدية الدعوة التي أطلقها مشبال في كتاباته السابقة لأن يكون النقد قريبا من الأعمال الإبداعية، وأن يستفيد من القديم والحديث دون خضوع لأيهما، وأن يكون قادرا على التواصل مع القارئ أيضا. وهو اتجاه منهجي ... يمثل طريقا صحيحا للخروج من أزمة النقد العربي الحديث الذي سبق لي أن وصفته بالتبعية"(3)

ثالثا: جدة الموضوع المطروق، وتمحور الدراسة على(صورة المغربي) ذي الهوى والعشق المصري الذي يسكن كيانه ووجدانه ومخيلته والذي يتجسد في ثلاثة نصوص سردية حديثة كتبها أدباء يختلفون جيلا ورؤية نقدية وإنجازا إبداعيا. النص الأول:" القاهرة تبوح بأسرارها" لعبد الكريم غلاب، والنص الثاني:"مثل صيف لن يتكرر" لمحمد برادة.والنص الثالث رواية"المصري" لمحمد أنقار.

إن" التيمة" المركزية التي تهيمن على فصول هذه الدراسة " هي تيمة" الهوى المصري باعتبارها عنصرا أساسيا في تكوين شخصية جيل من الأدباء والمثقفين المغاربة في العصر الحديث، والذين تأثروا بمصر وثقافتها وفنونها وآدابها...، فتغلغلت في أعماقهم لدرجة الهوى والعشق، وهو ماحاول هؤلاء الأدباء كل من زاويته التعبير عنه في محكياتهم السردية، سواء الذين عاشوا في مصر حقيقة كعبد الكريم غلاب ومحمد برادة، أو الذين حلموا بالسفر إليها وعاشوا فيها على مستوى المتخيل كما تجسده رواية"المصري" لمحمد أنقار.

"القاهرة تبوح بأسرارها" لعبد الكريم غلاب

يفتتح محمد مشبال دراسته النقدية بتمهيد طويل عنونه ب(الحلم المشرقي) وفيه يقدم تحليلا تاريخيا واجتماعيا ونقديا وذاتيا للهوى المصري ،دواعيه،أسبابه،تجلياته،مازجا هذا التحليل بالتجربة الذاتية والشخصية التي قضاها الباحث في القاهرة وهو يحضر رسالة(الماجستير) أواسط الثمانينيات من القرن الماضي. كما يكشف لنا هذا التمهيد عن جانب مهم من حياة محمد مشبال الجامعية والمؤثرات الثقافية والأدبية والفنية التي تحكمت في تشكيل ثقافته.

أما الفصل الأول من هذه الدراسة والمعنون ب(الهوى المصري والمغامرة السياسية) فيخصصه الباحث مشبال لدراسة العمل الإبداعي(القاهرة تبوح بأسرارها) لعبد الكريم غلاب،وهو ماجعله منذ البداية ،يخوض في السياق النوعي للعمل الأدبي من أجل تصنيفه وتحديده،مادام لا يتضمن أي إشارة إلى نوعه الأدبي ،ومن ثمة لا يوجد إطار بموجبه يحدد عبد الكريم غلاب للمتلقي مجال القراءة. فتحديد الجنس الأدبي أو النوع الأدبي ضرورة ملحة للدراس إذا بدون هذا التصنيف والتحديد تصبح عملية القراءة ضربا من الارتجال والعبث .يقول محمد مشبال ينتمي هذا العمل :"إلى جنس السيرة الذاتية ،دون أن ينفي عنه ذلك اختلاطه بأجناس سردية ونثرية أخرى من قبيل أدب الرحلة وجنس المذكرات والتأريخ والمقالة السياسية"(4).فهذا العمل على الرغم من انتمائه إلى جنس السيرة الذاتية واختلاطه بالأنواع الأدبية السالفة ،فانه لا يمنع ـ حسب مشبال ـ من اعتباره سردا تخييليا، مادام السارد يستعيد انطلاقا من الحاضر (زمن كتابة هذا العمل) ماضيا ولىّ وانقضى أحداثا ووقائع ومواقف وأحاسيس من ثنايا الذاكرة وما ظلّ عالقا في المخيلة والوجدان .فالقارئ الحصيف مدعو لأن لا يعتبر كل الأحداث والوقائع المروية حقيقة وقعت للسارد وهو يعيش في القاهرة،بل هي أحداث ووقائع خضعت للتعديل من لدن الكاتب بالحذف والزيادة والتحريف والإخفاء والتأويل لأغراض مختلفة قد تكون سياسية أو ثقافية أو أخلاقية وغيرها .لقد كتب عبد الكريم غلاب عمله بعد أن تقلد مناصب سياسية وثقافية مرموقة(5).لهذا نجده يسرد جزءا من سيرة حياته قضاها في القاهرة أواسط الثلاثينيات من القرن الماضي(1937)لمتابعة دراسته الجامعية. غير أنه مالبث أن انغمس في الفضاء السياسي والثقافي وتحول من طالب يطلب العلم إلى مناضل سياسي يناضل من اجل استقلال بلاده، وتحرر كل الدول العربية التي ترزح تحث نير الاستعمار وعودة الحرية والاستقلال. إن فضاء مصر تحول في عمل غلاب السردي إلى:" فضاء سياسي أكثر منه فضاء إنسانيا أو ثقافيا"(6)إن قاهرة الثلاثينيات من القرن الماضي هي فضاء ملائم ومناسب للعمل السياسي التحرري الذي مارسه غلاب إلى جانب ثلة من الطلبة والمناضلين السياسيين العرب. إنه فضاء جغرافي وحضاري وإنساني تحول في عمله إلى فضاء للمغامرة السياسية التي زرع بذورها فيه أستاذه الزعيم علال الفاسي ولهذا السبب نجد غلاب يزاوج في هذا العمل بين خطاب السرد الأدبي والتأريخ السياسي:" وهما صيغتان أسلوبيتان أو نمطان خطابيان كان قد أتقنهما غلاب الذي جمع في كتاباته بين المقال الصحفي السياسي والسرد الروائي"(7). فالسرد في هذا العمل ينتمي إلى جنس السيرة الذاتية، غير أن صاحبه لم يفرده لتصوير الذات والهوى لدى السارد تجاه مصر والمكان الذي يعشقه، بل جاء هذا الضرب من السرد شحيحا إذا ما قورن بسرد الوقائع والأحداث السياسية والتاريخية التي كانت القاهرة مسرحا لها. فهذا العمل ـ في حقيقة الأمر ـ قد خرق أفق انتظار القارئ، فبدل أن يكشف الكاتب عن مغامرات الذات الساردة في عشقها لفضاء القاهرة في شتى المناحي والمستويات،نلفيه يغلب وظيفتي الإخبار والخطابية إلى جانب التاريخ السياسي على حياة السارد الفردية، ففي مواضع كثيرة من هذا العمل نجد السارد يخوض في حديث مستفيض عن مصر وحكوماتها المتعاقبة،ودستورها وديمقراطيتها،وعلاقتها بالاستعمار الانجليزي ووضعها السياسي في ظل الفترة المستعادة، فترة الحرب العالمية الثانية،وتغيب الذات عن مسرح الأحداث. وهو ماجعل محمد مشبال يعلل جنوح السارد إلى هذا المنحى ويفسره بسببين اثنين الأول: راجع لأهمية الأحداث التاريخية .والسبب الثاني حجاجي إقناعي والمتمثل في دفع القارئ للتعرف على هذه الأحداث من ثمة تصديقها. إن جنوح السارد للاحتفاء بالأحداث التاريخية على حساب الأحوال الشخصية الداخلية جعل هذا العمل على حد قول محمد مشبال:"أقرب إلى جنس المذكرات منه إلى جنس السيرة

الذاتية، إذا ما أخذنا بالتمييز القديم القائل بأن المذكرات تركز على الأحداث الخارجية بينما تركز السيرة على الحياة الخاصة لصاحبها"(8).إن عبد الكريم غلاب كان حريصا على توجيه عملية الإخبار والإفادة والتعليم والتوجيه للقارئ، لدفعه إلى محاكاته إن أتيحت له نفس ظروف الكاتب في السفر إلى مصر، وهو ما توضحه سيرته بالقاهرة فهي نموذج لسيرة خليقة بالاقتداء والمحاكاة. بيد أن الأحوال النفسية والوجدانية والشعورية للسارد على الرغم من بروزها في هذا العمل السردي، إلا أن بروزها باهت ونادر من قبيل:"تصويره لولعه بالثقافة المصرية ولوداع الأسرة ولوفاة الوالد وللمشاعر التي انتابته في فرنسا قبل وصوله إلى مصر ولعلاقته بأساتذته في العلم أو الوطنية. كما أن الكاتب لم يبح بأية أسرار خاصة تشبه تلك الأسرار التي يتوقعها قارئ السيرة الذاتية الذي يقبل على هذا الجنس الأدبي مدفوعا بفضول تعرف أسراره في حياة غيره"(9). غير أن هذا القول لا ينفي بروز سمات مخصوصة تميز شخصية غلاب والتي تتطابق مع سمات شخصية السارد المؤلف، وهي سمات كلها إيجابية. من قبيل: الإخلاص والوفاء تجاه:" الزعيم الوطني والأب الروحي في النضال السياسي والأستاذ في العلم علال الفاسي"(10) وتجاه قضية الوطن، والالتزام في تأدية الأمانة والمسؤولية عندما أسندت له مهمة التدريس في إحدى مدارس القاهرة لمدة سنة وغيرها من السمات. بيد أن سفر غلاب إلى القاهرة قد كشف عن أهم سمة من سمات شخصيته وهي الهوى المصري وعشقه القاهرة باعتبارها تمثل الفضاء الرحب الذي تتجسد فيها الحرية والحداثة والتي افتقدها في بلده المغرب المقيد بالتقاليد ـ في تلك المرحلة ـ والذي لم يكن يسمح برؤية المرأة ولا ذهابها إلى السينما... إن الهوى المصري الذي سكن قلب غلاب ومخيلته قبل السفر إلى القاهرة، لم يكن في الحقيقة إلا الحلم:" ببلد متحرر من الاستعمار والتقاليد البالية، بلد يجمع بين الأصالة والمعاصرة، الأصالة المتمثلة في التشبث بالهوية العربية الإسلامية، والمعاصرة المتمثلة في الأخذ بالنظم السياسية الديمقراطية وبقوانين حرية المرأة وبنظم تعليمية حديثة"(11). إن القاهرة في وعي السارد المؤلف هي فضاء شاسع للثقافة، نسجتها أعمال أدبية وفنية رائعة من إبداعات الروائيين والأدباء ومشاهير المغنيين والممثلين... إنها الفضاء المنغرس في الوجدان والمخيلة والذاكرة العربية الجمعية تمثل في طبيعة مصر وفنونها وآدابها .وعموما إن عمق الإحساس بفتنة المتخيل الأدبي والثقافي والفني المصري لدى غلاب هو الذي حفزه للخوض في مغامرة السفر والسرد.

"مثل صيف لن يتكرر" لمحمد برادة.

عنون محمد مشبال الفصل الثاني من دراسته النقدية ب:" الهوى المصري والمغامرة الجنسية"، وقد أفرده لدراسة العمل الإبداعي:" مثل صيف لن يتكرر" لمحمد برادة، وقد جاء هذا الفصل قصيرا إذا ما قورن بالفصلين الأول والثالث، ومكثفا وعميقا من حيث المعالجة النقدية، حيث خاض مشبال في بدايته في الإشكال الأجناسي للعمل الأدبي مادام يتضمن إشارة إلى نوعه الأدبي"محكيات" الموجودة على صفحة الغلاف، والتي تحيلنا مباشرة على حكي مستعاد أو سرد تخييلي، يمتزج فيه الماضي بالحاضر، والمرجعي بالتخييلي، والواقع بالفن. إنه عمل تمتزج فيه السيرة الذاتية بالتخييل الروائي دون أن يخلو من استثمار الكاتب لكل ذخيرته في صنعة الكتابة سواء كانت قصصية روائية، أو نقدية سياسية:" غير أن هذه الأنماط ظلت مشدودة إلى الخطاب السردي المهيمن وإلى التجربة الحياتية الذاتية"(12). إن" محكيات" محمد برادة تصور تأثير الهوى المصري في وجدان السارد(حماد) منذ الصغر، وهو ماحمله على السفر إلى مصر وخوض المغامرة. كما تصور صدمة هذا الفتى بفضاء لم يكن قبل السفر إلا مجموعة من الصور الثقافية والفنية التي شكلت مخيلته. كما تعمل على تصوير تفاعل السارد مع مختلف الفضاءات الموجودة في مصر الجامعية والفنية والسياسية والثقافية والاجتماعية والجنسية. إنها باختصار تصور:" تاريخ الهوى المصري في مخيلة المغربي في أطوار مختلفة في حياة السارد ووجدانه وعقله"(13).طور الحلم بالسفر، وطور الإقامة والتفاعل والذوبان في فضاء مصر، وطور الزيارات المتكررة إلى أرض المغامرة والأحلام.

لقد ركز مشبال في دراسته للمحكيات على سمات شخصية البطل حماد/ المؤلف وكيف تفاعلت مع وعيه الذاتي وذخيرته الثقافية المصرية ليصبح الهوى المصري في مخيلته مرتبطا بالثقافة والفن والعمل السياسي والحرية الجنسية(14)ومن ثم كيف أصبح هذا الهوى والافتتان حافزا للسفر والمغامرة. فالسارد/ المؤلف قد سافر إلى القاهرة وهو محمل بماضيه الحافل ب:" العفرتة والشيطنة"(15) والذي أظهره مع أترابه من زملائه المغاربة والمصريين في مدرسة الحسينية قبل الالتحاق بالكلية. فشخصيته تختلف عن شخصية عبد الكريم غلاب المحافظة التي قدمت من فاس،كما تختلف عن شخصية " الساحلي " ـ بطل"المصري "ـ التطوانية المحافظة والعليلة. إن حماد شخصية غير منطوية أو خجولة، بل شخصية شجاعة انخرطت في العمل السياسي منذ الصغر حيث:" شارك في المظاهرات وهو لم يتجاوز العاشرة، وعاشر أصدقاء الفصل الدراسي الذين أنشأوا خلية مقاومة مسلحة في 1954"(16)لذلك لاغرابة أن نجده غير متردد في التطوع للتدريب في أحد معسكرات القاهرة على إطلاق النار بعد العدوان الثلاثي على مصر وعقب تأميم قناة السويس، لقد زاوج بين الثقافة والسياسة إلى أن أصبح مثقفا وسياسيا يساريا يؤمن بالتحرر الخلقي والاجتماعي، ويخوض مغامرات جنسية مثيرة مع نساء اللذة العابرة والعلاقات الملتبسة، هذه المغامرات الجنسية قد استوحاها من أبطال السينما المصرية التي أدمن مشاهدتها مند طفولته بفاس، حاول بعد ذلك أن يحاكيها بالفعل في مصر .

إن واقع (المحكيات) لاتصور بطلا يبحث عن تجسيد صور الحب السينمائية المكبوتة فقط، بقدر ماتصور بطلا نهما وشبقا لا هم له سوى إشباع غرائزه الجنسية مع نساء من مختلف الطبقات الاجتماعية والثقافية. لقد خاض حماد /البطل هذه المغامرات الجنسية مع نساء القاهرة منذ أول زيارة له لمصر، لم تنقطع حتى في زياراته العابرة بعد أن أصبح أستاذا جامعيا ومثقفا عربيا بارزا، وهي مغامرات جنسية وعلاقات غرامية تطبعها الحسية بحيث تمثل اتجاها في الكتابة الروائية العربية الحديثة؛ تنطوي على الجرأة وتعرية الواقع، هدفها التواصل مع القارئ برؤية جديدة من أجل إمتاعه وإقناعه، ودفعه للتحرر من كل القيود والتقاليد التي تعيق حريته. فالكاتب يصدر عن مبدأ أخلاقي مناقض لمبدأ الحرص على طهارة المظاهر، والتستر الذي يتحلى به الخطاب الثقافي الرسمي في نظرته للمرأة والرجل على السواء. إنها نظرة إبداعية ورؤية نقدية جريئة، تنسجم إلى حد بعيد مع رؤية الكاتب للعالم وللكتابة ولمجال القيم مادام ينتمي إلى جيل الأدباء والنقاد الحداثيين بالمغرب.

لقد حاول حماد/المؤلف أن يدعم موقفه ونزوعه للمغامرات الجنسية مستندا إلى رأي لنجيب محفوظ يدعو فيه إلى تجديد الأخلاق بمعناها الواسع، فليس شعر أبي نواس مثلا والموصوف بالإباحية سوى:" دعوة إلى أخلاق جديدة تتمثل في المطالبة بالحرية والتخلص من المحرمات"(17) وقياسا على تجربة أبي نواس يمكن أن نفهم كل التجارب الإبداعية الروائية العربية الحديثة التي صورت الرغبة الجنسية عند الرجل والمرأة، بما فيها محكيات محمد برادة التي تصور سيرة حياته بالقاهرة(18).غير أن محمد مشبال في تقييمه للصور الجنسية في المحكيات لا يستند فقط إلى المسوّغ النقدي العام الذي حاول الكاتب أن يدعم به موقفه ونزوعه للمغامرات الجنسية وإن كانت له وجاهته النقدية، وإنما ينتقد الصورة التي صوّر بها الكاتب بطله باعتباره:"فارسا أو دنجوانا في كل المواقف الجنسية... لاتعتريه أحيانا لحظات ضعف إنساني"(19). كما ينتقد مشبال صور مغامرات السارد مع النساء بحيث يهيمن عليها التصوير الحسي في إغفال شبه تام لجانب المشاعر الإنسانية الداخلية لهن، باعتبارها مادة دسمة جديرة بالتصوير لإغناء هذه المحكيات. غير أن قوله هذا لاينفي عما خصصه الكاتب من صور روائية لمشاهد وفسحات إنسانية خاصة تعلق بها في القاهرة أو تفاعل معها مثل "أم فتحية"الخادمة النوبية،ومثل السيدة " زينات" وغيرها .بيد أن الملاحظة التي استرعت انتباه مشبال فيما سرده الكاتب من صور روائية عن:" الجامعة وأساتذتها وعموم المثقفين الذين يفترض أن يكون قد تفاعل معهم ،لا يستجيب لتوقعات قارئ مصاب بالهوى المصري"(20)،ولهذا لجأ- في نظره- إلى تخصيص بعض الصفحات من محكياته لروايات نجيب محفوظ وللحوار الذي أجراه معه بمناسبة حصوله على جائزة نوبل،وكأن الكاتب أراد أن يحدث نوعا من التوازن بين مختلف جوانب الحياة في هذا العمل(21).

وعموما يمكن القول إن هذه المحكيات تمثل من حيث وظيفتها البلاغية التداولية نصا سرديا تخييليا لصورة البطل النموذجية، ولصورة المثقف المغربي الذي حلم بالسفر إلى مصر مثله مثل معظم المغاربة في حقبة تاريخية مهمة من تاريخ تشكل الشخصية المغربية في العصر الحديث. إنها باختصار محكيات تزاوج بين استبطان الذات والغوص في أصقاعها الدفينة لمحاورتها، والتواصل مع المتلقي في نفس الوقت، ودعوته لأن يرى الكاتب نموذجا للأديب والمثقف المغربي الذي عاش تجربة حياة خليقة بالاقتداء والمحاكاة.

رواية "المصري" لمحمد أنقار

أفرد محمد مشبال الفصل الثالث من دراسته النقدية لقراءة رواية"المصري" لمحمد أنقار(21). وقد عنون هذا الفصل ب:( الهوى المصري والمغامرة الروائية) وهو يعتبر من أطول فصول هذه الدراسة، نظرا للمساحة الشاسعة التي خصصها الباحث لتحليل الرواية وتأويلها، لما تنطوي عليه من أسئلة تدعو للتفكير بواسطة أساليبها البلاغية والتخييلية، منها الإبداعي والنقدي والتاريخي والجغرافي والثقافي، إنها تتوخى تصوير تأثير الهوى المصري في مخيلة الإنسان المغربي والذي لا يتجسد في المغامرة والسفر الحقيقي كما هو الشأن بالنسبة لعبد الكريم غلاب ومحمد برادة، بل هو سفر ذهني يتحقق عبر التخييل والسرد.

إن رواية"المصري" هي قصة أستاذ مغربي عليل مشرف على التقاعد يتطلع إلى أن يكتب رواية ساحرة وفاتنة عن مدينته "تطوان" مثلما صنع نجيب محفوظ بمدينة القاهرة، غير أن العجز عن تنفيذ هذا المشروع سيسلمه للهزيمة والسقوط التراجيدي. إن الرغبة في الكتابة والإبداع عند السارد/أحمد الساحلي هي رغبة في تحدي الموت، ومواجهة المصير المأساوي الذي استبد به عقب وفاة رفيقه في الطفولة والعمل(عبد الكريم الصويري) بعد أسبوع واحد من تقاعده، كما أنها رغبة تستعيض عن العجز في تحقيق حلمه المشرقي بالسفر والمغامرة الحقيقية في فضاء مصر. إن الهوى المصري يصبح في هذه الرواية مرادفا للرغبة في الإبداع الروائي والتألق التي أوحى بها الكاتب الملهم نجيب محفوظ، والثقافة المصرية.

فما إن اطلع السارد على رواية"القاهرة الجديدة"لنجيب محفوظ حتى حدث تحول عميق على مستوى رؤيته لذاته وعلاقاته مع الآخرين ومحيطه الخارجي، كما حدث تحول عميق على مستوى وعيه الجمالي وتفكيره"الأجناسي"، فقد تحول السارد من مثقف تقليدي يعشق الشعر ويجيد الإعراب، إلى مثقف يرتبط بالواقع الاجتماعي ويعشق السرد ويحلم بالكتابة، غير أن افتتان السارد بنجيب محفوظ لم يقتصر على "القاهرة الجديدة"فحسب، بل تعداه إلى الافتتان برواياته الأخرى وببعض أبطالها(عايدة بطلة الثلاثية)و(نور بطلة اللص والكلاب) وغيرها.لقد مثلت له روايات نجيب محفوظ وعوالمها التخييلية الأسرة الخيالية البديلة التي ستحتضن الساحلي وتجعله يعيش حياة متناقضة ومزدوجة موزعا بين حياة تقليدية مكبلة بالمواضعات الاجتماعية المفروضة، وحياة خاصة ينسجها بخياله تحلق به بعيدا في أجواء الحرية والقيم المثالية التي افتقدها في محيطه. لقد افتتن أحمد الساحلي بالثقافة المصرية حتى توهم في البداية أنه يمكن أن يخرج إلى دروب مدينته العتيقة ليلتقط مادة قصصية ينسج منها رواية فاتنة عن مدينته"تطوان"، بيد أن هذا الوهم سرعان ما سيتبدد لأسباب متعددة منها ما يرتبط بالذات، ومنها ما يرتبط بالزمان والمكان. فالشيخوخة وما ارتبط بها من أدواء جسدية ونفسية، والالتزام بالمواضعات الاجتماعية وتأجيل الكتابة، والموقف المستهجن من السرد من طرف بعض أصدقائه(المحامي بنعيسى) والذي يرى في الرواية خيالا محضا يبتعد عن الحقيقة والواقع، والإهانة والضرب الذي أوشك أن يتعرض له من طرف السماك عندما حاول أن يصوغ حبكة قصصية تليق بوصف (السويقة)... هذه كلها أسباب وعوائق حالت دون تحقيق مشروعه الروائي.

إن أهمية رواية "المصري"ـ حسب مشبال ـ لا تتمثل في تصويرها الروائي لمدينة تطوان العتيقة فحسب، بل تتمثل في تصويرها معضلة كتابة الرواية،ودوافع المغامرة الروائية عند البطل وكيفية تشكلها،لقد جعلت تأمل الأدب أو الرواية موضوعا لها، ولهذا السبب نلفيها تخوض في إشكالات جمة تتعلق بنشأة العمل الروائي وهل هو حصيلة إبداع دفعة واحدة، أم هو تراكم لصور متفرقة في مراحل زمنية مختلفة، كما تخوض في إشكال نسج تلك الصور المتفرقة هل بالاعتماد على الوصف أو السرد أم الجمع بينهما، وهل بنسج الواقع أم بالاعتماد على التخييل، وكيف يمكن الاهتداء إلى الأحداث القصصية التي تلحم الصور الجاهزة...؟(22).

إن ما تضمره الرواية من أسئلة حول معضلة الكتابة الروائية، لينم ـ في الحقيقة ـ عن وعي السارد بأصول الصنعة الروائية، كما ينم عن وعي المؤلف/ محمد أنقار بنظرية الرواية وبتقنيات كتابتها، حيث سبق له أن قدّم في هذا المجال بحثا للدكتوراه(23)،بالإضافة إلى العديد من الدراسات المنشورة في المجلات النقدية الرصينة. إن هذه الأسئلة المثارة أو المستضمرة في الرواية، جعلت الباحث محمد مشبال يفتح الباب مشرعا في قراءته وتحليله للرواية لمجال التأويل، حيث وقف على إشكالية العلاقة بين الشعر والنثر باعتبارها مبحثا شغل التفكير البلاغي والنقدي العربي القديم والحديث في نفس الوقت، كما وقف على الدوافع التي تحكمت في تغيير نظرة السارد للشعر وكيف تحول اهتمامه إلى السرد(24). فمشبال ينطلق في تفسيره لهذه الرواية من سياقها الروائي العام، وما توحي إليه من دلالات، حيث عقد مقارنة بين سمات شخصية السارد أحمد الساحلي وضون كيخوطي دي لاما نشا لثربانطيس(25)، ليقف على نقط التشابه والاختلاف بينهما كثيرة؛ فإذا كان ضون كيخوطي قد افتتن بالأدب الفروسي فأراد أن يكون فارسا في زمن انتهت فيه الفروسية، فإن احمد الساحلي افتتن بروايات نجيب محفوظ فخرج إلى دروب مدينته العتيقة"تطوان"بحثا عن حبكة قصصية يبخل بها الواقع.لقد واجه كل منهما الواقع بالوهم؛ ولهذا ارتكبا حماقات بوحي من المتخيل الأدبي الذي تحكّم فيهما؛ فبالوهم استطاع كيخوطي أن يثبت وجوده باعتباره فارسا جوّالا،وعندما أراد أن يتخلى عنه في أواخر أيامه ويوّاجه الحقيقة كان ذلك إعلانا عن مرضه وعلامة على موته. وبالوهم ـ كذلك ـاستطاع الساحلي أن يخفف عن ذاته من عبء أسرته ومدينته بحيث إذا ما فكّرفي التخلي عن إنجاز مشروعه الروائي فسيكون ذلك إيذانا بالموت.

لقد فسّر مشبال معضلة أحمد الساحلي في الإبداع الروائي بالمعركة التي كان يخوضها السارد مع الخيال القصصي والذي لم يكن يسعفه في نسج حبكة مشوقة للرواية. لقد كان يجد نفسه ينحرف عن ذلك إلى التسجيل والتأريخ؛ فهو على الرغم من وعيه بأهمية السمات:" التي يفرزها اختلاط الناس بالأمكنة" (26)، وبأهمية الصور القصصية في:" البناء القصصي المتسق القادر على جذب القراء والتواصل معهم"(27)، فإنه كان يجد نفسه عاجزا عن هذه الصنعة القصصية ومنساقا وراء المعلومات والأسلوب التقريري.

لقد قصد محمد أنقار مخاتلة القارئ قصدا، ففي الوقت الذي أعلن فيه على لسان السارد بعجزه عن إنجاز مشروعه الروائي، يكون المؤلّف قد أبدع وأنجز روايته بالفعل، ولن يكتفي بذلك فقط ، بل سينجز رواية جديدة معنونة ب : " باريو مالقا" (28) تجيب عن كثير من الأسئلة المثارة والمستضمرة في روايته " المصري".

المراجع

(1)"الهوى المصري في المخيلة المغربية: قراءات في السرد المغربي الحديث" د: محمد مشبال،ط . I ، 2007منشورات بلاغاتt، القصر الكبير.

(2)يمكن للقارئ الرجوع بصدد هذا المفهوم ل:" بناء الصورة في الرواية الاستعمارية: صورة المغرب في الرواية الاسبانية" د: محمد أنقار ط.I،يناير 1994، مكتبة الإدريسي للنثر والتوزيع، تطوان.

"الصورة في الرواية" لستيفن أولمان،ترجمة:رضوان العيادي ومحمد مشبال ط.I.1995، منشورات مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة.

(3)"الهوى المصري في المخيلة المغربية" محمد مشبال، مقدمة سيد البحراوي،ص:11.

(4)نفسه ص:53.

(5) " ص:55.

(6) " ص:55.

(7) " ص:57.

(8) " ص:72.

(9) " ص: 73.

(10)" القاهرة تبوح بأسرارها" لعبد الكريم غلاب ضمن سلسلة كتاب الهلال العدد591مارس 2000ص:279.

(11)"الهوى المصري" ص:62

(12)نفسه : ص: 77.

(13) " : ص: 79.

(14) " : ص : 88.

(15) " مثل صيف لن يتكرر"محمد برادة،منشورات الفنك،الدار البيضاء-المغرب،1999.ص:14.

(16)نفسه ص : 120.

(17) نفسه : ص : 164.

(18) الهوى المصري ص : 85.

(19) نفسه ص: 87.

(20) " " : 87.

(21)"المصري" محمد أنقار،ط.I، عن روايات الهلال بالقاهرة العدد659 نوفمبر2003.

(22)" الهوى المصري" ص:144.

(23) "بناء الصورة في الرواية الاستعمارية"محمد أنقار.(مرجع مذكور).

(24)" الهوى المصري"من ص113إلى 116.

(25)نفسه ص:127و128و129و149.

(26) نفسه : ص: 156.

(27) " " :138.

(28) "باريو مالقا" محمد أنقار،ط،I،2007،مطبعة أم ـ الأمل شارع الجامعة العربية، رقم19،تطوان.