الجمعة، 24 أكتوبر 2008

حديث الجامعة5 الأدب والتعليم


ارتباط الأدب بالتعليم كان يعني في القديم تمكين المتعلم من ذخيرة النصوص الأدبية في الشعر والنثر حتى يصبح قادرا على التمثل بها في مختلف المواقف أو لتكون عدة له في القول والإنشاء. تعليم الأدب كان مرادفا للتثقيف والتهذيب والإعداد اللغوي والأدبي والخطابي. أن تتعلم الأدب يعني أن تصبح بليغا أو خطيبا أو كاتبا. ولم يختلف الهدف من تعليم الأدب في العصور الحديثة عن هدفه السائد قديما؛ غير أن المجتمعات الأرستقراطية والبرجوازية الحديثة ربطت التأدُّب بالنُّبل والتميُّز عن الطبقات الدنيا الأقل حظا من سلطان المال والمعرفة. هكذا اقترن الأدب تاريخيا بالقدرة على الخطاب وبالتميز الاجتماعي.

غير أن انتشار المؤسسات التعليمية في المجتمعات المعاصرة وتحول الأدب إلى مادة معرفية تلقن للتلميذ في المدرسة وللطالب في الجامعة سواء باعتبارها مادة تكميلية أو مادة للتخصص والتأهيل، سيجعل من تعليم الأدب حرفة أو مهنة يسعى إليها الطلاب بحثا عن مصدر للرزق؛ أعني إنتاج فئة من المتخصصين يعملون في المؤسسات التعليمية مدرسين للأدب. هكذا تحوَّلت وظيفة تعليم الأدب من الغاية التثقيفية الخالصة إلى الغاية المهنية؛ لتبدأ متاعب تعليم الأدب والمخاطر التي تتهدده.

لماذا نعلِّم الأدب؟

من الخطأ حصر الجواب في الجانب المهني، لأننا نحكم في هذه الحال على الأدب بالدوران في حلقة مفرغة؛ أي فئة اجتماعية تعيد إنتاج نفسها في سلسلة لا تنتهي: التعليم لأجل التعليم.

ومن الجهل الجواب بالدعوة إلى الاستغناء عن تعليم الأدب، لأنه في جميع الأحوال لابد من تأهيل فئة من المتخصصين لتدريس الأدب للتلاميذ في المدارس؛ فلا يعقل أن يتم تكوين هؤلاء في مواد علمية أو تقنية خالصة من دون مواد إنسانية تبصِّرهم بأنفسهم باعتبارهم ذواتا إنسانية قبل كل شيء. فقد برهنت التجربة أن التلميذ "العلمي" الجيد يضمر شغفا كبيرا للأدب، وأنه عندما يتخرج ويندمج في الحياة العملية يظهر حاجة ماسة إلى الثقافة الأدبية.

إن المخرج المناسب لإنقاذ تعليم الأدب من المخاطر المحدقة به، لا يكمن في ربطه بسوق العمل، لأن التعليم الأدبي ببساطة شديدة لا يمكن ربطه بمهن محسوسة خارج دائرة التعليم، بل يكمن في تعميق دوره التثقيفي الذي اقترن به منذ البداية؛ أي إعداد مجتمع من الطلاب إعدادا أدبيا رفيعا سواء في المرحلة الثانوية أو في المرحلة الجامعية. وهذا يقتضي أن تتغير نظرة المجتمع إلى التعليم الأدبي تغيرا جذريا من النظرة المهنية القدحية إلى النظرة التثقيفية المنزهة عن كل الأغراض العملية. كما يقتضي أن تتغير طرق تدريس الأدب تغيرا جذريا من التركيز على مناهج وأدوات مقاربة الأعمال الأدبية إلى التركيز على قراءة الأعمال الأدبية وتذوقها ومناقشة أفكارها وتأويل معانيها.

لا يوجد سوى حلٍّ واحد لا بديل عنه لإنقاذ تعليم الأدب من المأزق الذي تورط فيه؛ ربط تعليم الأدب بالتثقيف بغض النظر عن ما يمكن أن يسفر عنه هذا التعليم من مهن عملية. لن يسترد التعليم الأدبي بريقه ومكانته في المجتمع إلا بوصله بوظيفته الأصلية القديمة عندما كان الإنسان يطلب الأدب ليثقف نفسه ويصبح بليغا أو كاتبا أو خطيبا.

من حق المتأدب الجيد اليوم أن يباهي غيره من المتأهلين في حقول العلوم العملية المختلفة أن وظيفته في الحياة ليست أقل شأنا من وظائفهم؛ فالعبرة ليست بالعائد المادي أو بالنتائج الملموسة، ولكن بالاحتياج الذي تفرزه المجتمعات الإنسانية المتحضرة إلى هذا اللون من المعرفة التي لا يمكن أن يزهد فيها سوى جاهل بحقائق الحياة.

لاشك أن الأخذ بهذا الاعتبار سيطرد كل متطفل رمت به الأقدار إلى هذا المجال بعد أن ضل الطريق وعجز عن إدراك المراد، وسيرشد كل متعلم شغوف إلى السبيل الصحيح للتأدب والنهل من عيون الأدب، وسيجعل معلم الأدب يدرك أن وظيفة تعليم الأدب ليست بعيدة عن وظائف التثقيف والتهذيب والارتقاء بالذوق والتبصير بالإنسان وبالحياة وبالوجود.

ما أبعد هذه الوظيفة عن سوق العمل، وما أقربها من حقيقة الأدب وجوهر الإنسان!

ليست هناك تعليقات: