يمكننا أن نتحدث بقدر من التعميم والتجوز في موضوع تدريس الأدب ودراساته في الجامعات العربية منذ بداياتها الأولى حتى الآن، عن فريقين عريضين واتجاهين أساسين أسهما في تكوين آلاف الخريجين، على نحو ما أسهما في تشكيل الثقافة الأدبية في واقع البلدان العربية؛ فريق يوصف بأنه تقليدي وقديم، وفريق يوصف بأنه حداثي ومعاصر. وبين الفريقين صراع يعلو أحيانا ويخفت في أكثر الأحيان. ولن يستطيع أحد أن يثبت داخل الجامعة الغلبة لهذا الفريق أو ذاك، أو يدعي لأحدهما الحق في الوجود دون الآخر. صحيح أن المناهج النقدية الحداثية اكتسحت في العقود الأربعة الأخيرة مقررات الدرس الجامعي والرسائل والأطاريح الجامعية، على نحو ما اكتسحت الممارسة الأدبية في معظم المجلات والمنشورات التي تصدر في البلاد العربية، ونجحت في اكتساح مقررات المدارس الثانوية. ولكن هذا الاكتساح لم يوقف مع ذلك استمرار الاتجاه الموصوف بالتقليدي عن ممارسة وظيفته العلمية في الجامعة. ولا شك أن وراء هذا الاستمرار أسبابا أعمق مما يمكن أن يستنتجه الفهم المتعجل. لعل أحدها يؤول إلى إخفاق الاتجاه الحداثي في خلق ممارسة أدبية حقيقية قادرة على الإزاحة والتجاوز وترسيخ البديل.
وإذا كان المقصود بالاتجاه الحداثي عادة النقد الذي رفع شعار الصرامة العلمية، فإن كل الاجتهادات النقدية الأخرى، على الرغم من عمق أسئلتها وأدواتها تظل تقليدية من هذا المنظور، مادامت لم تأخذ بأسباب الصرامة العلمية. على هذا النحو يتسع النقد التقليدي ليشمل كل الخطابات النقدية التي تبلورت خارج دائرتي النموذجين اللساني البنيوي وما بعد البنيوي.
صحيح أن أقطاب الاتجاه الحداثي رفعوا شعارات براقة ووضعوا يدهم على الداء الذي أصاب الممارسة النقدية عندما حولها بعض النقاد "التقليديون" إلى خطاب يعنى بسياق الأعمال الأدبية بدل هذه الأعمال نفسها في بعدها الأدبي. غير أنه ليس كل النقد التقليدي الذي ثار عليه الاتجاه الحداثي هو من هذا القبيل الذي حول الأدب إلى وثيقة. فالنقد التقليدي لا يشكل خطابا موحدا. وربما كان المقصود به-في الجوهر- من منظور الحداثيين مجموع الاجتهادات التي لم يعن فيها أصحابها بقضية المنهج عنايتهم بتفسير الأعمال الأدبية نفسها وتأويلها. وفي سياق هذا التفسير تحديدا يكون النقد الحداثي قد جانب الصواب وضل السبيل؛ فقد كان دفاعه عن الأدب باسم المنهج وباسم الصرامة العلمية إعلانا عن التضحية بالأعمال الأدبية لصالح ما سمي بعلم الأدب؛ أي القواعد والنظريات والنماذج.
على هذا النحو يصير النقد التقليدي غير المفتون بالمنهج-على تباين أنظاره ومقارباته- أقرب إلى روح الأدب وعموم القراء من النقد الحداثي، مما يدفعنا إلى رفض التصنيف القيمي لدارسي الأدب إلى فئة التقليديين وفئة الحداثيين.
ولعل الأنسب أن نتحدث بدلا من ذلك عن دراسات نقدية أدبية ودراسات لا صلة لها بالنقد الأدبي. ما هو الخطاب النقدي الذي يخدم الأدب وما هو الخطاب النقدي الذي يخدم نفسه!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق