في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي أتيح لي أن أتابع باستمرار الصفحات الثقافية في الصحف المصرية التي كانت تتابع الحياة الأدبية والفكرية في القاهرة وغيرها من المدن المصرية. وكنت لاحظت أن هذه الصحف تكتفي بنشر أخبار الإصدارات الجديدة والأنشطة الثقافية والفنية في الجامعات وباقي المؤسسات الثقافية، كما قد تنشر بعض التحقيقات الصحافية حول ظواهر ثقافية متنوعة، أو حوارات سريعة مع مفكرين أو روائيين أو شعراء أو نقاد، وقد تنشر بعض القصائد والقصص القصيرة.
وطوال متابعتي لهذه الصحف كنت أرتاب في الخدمة التي يمكن أن تسديها للأدب، وكان في ذهني نموذج الصحافة المغربية الذي كانت تصدر ملاحق ثقافية شكلت في الواقع منبرا يؤمه النقاد والأدباء الجامعيون وغير الجامعيين للنشر السريع والانتشار الواسع. والحق أن هذه الملاحق الثقافية كانت أشبه بمجلات متخصصة احتضنت صفحاتها التجارب النقدية والإبداعية المتنامية في المغرب؛ فقد استطاعت أن تواكب الانفتاح النقدي في المغرب على المناهج الحديثة، مثلها في ذلك مثل المجلات الثقافية المتخصصة لا تكاد تختلف عنها في الشكل أو المضمون.
ولكني أدركت بعد ذلك أن هذه الملاحق الثقافية كانت تحمل نفسها أكثر مما تستطيع أن تحتمل؛ فالمقام الصحفي مقام إخبار وإن اتسع أحيانا لإبداء الرأي في قضية أو مناقشة أو سجال. ولكنه لا يستطيع أن يتحمل مقالات نقدية دقيقة في نظريات الأدب الحديثة ومناهج مقاربة النصوص الأدبية.
صحيح أن الملاحق الثقافية في الصحافة المغربية نجحت في سد حاجات أعداد متزايدة من الكتاب المغاربة الذين لم يجدوا مجالات أخرى لنشر كتاباتهم؛ فعدد المجلات الصادرة بالمغرب قليل كما أن صدورها غير منتظم. غير أن النتائج العملية لهذه الملاحق الثقافية لم تكن لتسعد أحدا؛ فقد تبين لمعظم القراء أن المادة الأدبية الدسمة والدقيقة كانت على حساب متطلبات القارئ العام الذي افتقر إلى مقالات نقدية توصل إليه الأعمال الإبداعية وتساعده على قراءتها.
لقد كان واضحا أن السواد الأعظم من كتاب الملاحق كانوا يمثلون فئة واسعة من الباحثين الجامعيين الشباب في مجال النقد الأدبي والمناهج والرواية والشعر والمسرح؛ وكان هؤلاء يتخذون من هذه الملاحق ساحة لاستعراض معرفتهم النقدية واهتماماتهم النظرية. وكان من النادر أن تجد بين هؤلاء الكتاب من يأخذ في حساباته وهو يصوغ مقالته أن نشرها في الصحيفة يعني أن تخضع بالضرورة لمتطلبات التلقي الصحفي.
وعلى الرغم من أن الملاحق الثقافية غرقت في خطاب أدبي دقيق يهم فئة قليلة من المتخصصين، فإنها لم تفلح في أن تحوز رضا فئة عريضة من الجامعيين الذين ظلوا ينظرون إليها باعتبارها مقاما صحفيا غير جدير بالتقدير. وعلى هذا النحو أفضى الواقع بهذه الملاحق إلى أن تخسر كلا من القارئ العام والقارئ المتخصص ولكن لأسباب مختلفة.
ماذا تبقى لها إذن؟
الجواب الأقرب إلى الأذهان، هو أنها ستظل مساحة للكتابة غير المقروءة، أو فضاءا يؤثثه كتاب لا يخطر في بالهم أن القارئ العادي قد نعلمه كيف لا ينتزع الملحق من ثنايا الصحيفة كما ينتزع النواة من التمر، نعلمه كيف يقرأ الأدب والنقد كما يقرأ أخبار السياسة والفن والرياضة. إن على الكاتب ببساطة أن يتخلى عن ذاته قليلا إذا أراد أن يتواصل مع غيره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق