من يستطيع اليوم أن يتحدث بخير عن الأدب في مدارسنا وجامعاتنا، بل وفي فضاءاتنا الاجتماعية؟! لا أتهم الناس بالجهل كما أنني لا أطالبهم بأن ينشغلوا بشيء لا يعتبر جزءا من أولوياتهم وحاجاتهم الملموسة. فالأدب إن كان مطلبا اجتماعيا وسياسيا وثقافيا عند العرب قبل الإسلام وبعده، وكان ولا يزال كذلك في المجتمعات الغربية الديموقراطية، فإنه لا سلطان له في مجتمعاتنا العربية المعاصرة؛ حيث لا صوت يعلو على صوت السلطة الحاكمة، و لا حاجة تعلو على حاجات عامة الناس في أن يمتلكوا سلطة مادية تعوضهم العجز عن فرض سلطتهم الرمزية.
وإذا كان العرب القدماء امتدحوا البلاغة وقدروا القريحة البلاغية الأدبية والبيانية في مجتمع لا يفصل بين حد السيف وحد الكلمة، وبين قوة العصا وقوة البيان، فإن جبروت السلطة السياسية لم يكن يسمح للبلاغة بأن تصبح سلطة اجتماعية؛ ولأجل ذلك عاش أعظم صناع البلاغة في ثقافتنا العربية القديمة شعراء وكتابا محنا اجتماعية، لم يخفف من وطأتها عليهم سوى الاقتراب من هذه السلطة وطلب ودها؛ ألم تعبر مقامات الهمذاني والحريري تعبيرا عن محنة البلاغة وصناع الأدب في المجتمع العربي عندما صورت تحول الشاعر من نبي في قبيلته إلى مكد في المدينة يستجدي لكي يعيش؟!
هل كان يجرؤ بلاغي عظيم مثل الجاحظ أن يصوغ بلاغته وينشر مؤلفاته من دون رعاية وإشراف السلطة الحاكمة حتى وإن أبى أن يكون كاتبا خادما أو موظفا في ديوانها. وهكذا كان شأن غيره من فحول البلاغة العربية شعراء وكتابا، لا يملكون إنتاج بلاغاتهم ونشرها إلا عبر قناة السلطة. وما يعنيني في هذا المقام ليس الإشارة إلى حرية التعبير الأدبي، ولكني أردت الإشارة إلى إحدى محن الأدب في الحياة، وهي أن صناعه لا يستطيعون في مجتمعاتهم الاعتماد في عيشهم على صناعتهم؛ لأجل ذلك اضطر الشاعر القديم إلى التكسب، والكاتب إلى التقرب من السلطة حتى تنفق بضاعته ويجني منها ما يقيم به أوده، أو الاتكاء على صناعة أخرى بالإضافة إلى صناعة البلاغة.
هل اختلف الوضع في زماننا هذا؟ هل يستطيع شاعر أو روائي أو كاتب في المجتمعات العربية اليوم لا يملك وظيفة أو راتبا شهريا أو مهنة أن يعيش على العائد المادي الذي يحصل عليه من مبيعات كتبه؟! بل الأصح أن نسأل كم ينفق الأديب العربي من ماله الخاص لكي ينتج عمله ويذيعه في الناس؟
إن على الأديب العربي إذن أن ينفق على الأدب من حرفة أخرى يحترفها مادام الأدب حرفة من لا حرفة له؛ حرفة لا يعترف بها المجتمع إلا في إطار الوظيفة؛ أن يكون الأديب أستاذا للأدب أو صحافيا أو مستشارا لدار نشر أو عضوا في مؤسسة ثقافية وطنية أو دولية.
لعل قدر الأدب في مجتمعاتنا أن يظل أشبه ببضاعة غير نافعة تقبل عليها فئة قليلة من الناس تزجي بها وقتها الفارغ. وفي مثل هذا الوضع لن نحلم بأدباء متفرغين للإبداع الأدبي؛ أدباء ليس لهم ما يشغلهم عن تحريك خواطرهم وخيالاتهم سوى أعمالهم الأدبية التي تحتاج منهم إلى جهد فكري وبحث مضن. فليس الأدب صناعة إنشائية فارغة، أو خواطر تكتب في مقهى أو في رحلة سفر بين محطتي قطار. وإذا كان شيء من ذلك يحصل لبعض الأدباء، فإنه ليس سوى إفراز من إفرازات مرحلة طويلة من الإعداد.
نحلم بمجتمع يقدر حرفة الأدب؛ وأفضل تقدير رسمي لها أن تقبل وزارة الثقافة على اقتناء مؤلفات الأدباء وتوزيعها على مؤسساتها التابعة لها في مختلف جهات الوطن. وأفضل تقدير شعبي لها أن يشجع الآباء أبناءهم على القراءة. وأما الأدباء فواجبهم أن يتفهموا الواقع المتغير وأن ينصتوا للناس ويستجيبوا لمطالبهم المعلنة والخفية، وأن يتخلوا عن بياناتهم المسرفة في المثالية. وفي كلمة واحدة إنهم مطالبون بالانقلاب على مفاهيمهم إذا شاؤوا لأعمالهم أن تسهم في تخليص الأدب من بعض محنه الكثيرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق