الأربعاء، 29 أكتوبر 2008

دراسات في السرد الحديث: صورة تطوان في رواية"المصري" تقاطع الواقع والتخييل


رواية المدينة:إشكال التصوير.

لاشك أن المكان مكون أساس من مكونات التصوير الروائي؛ففي كل الروايات أمكنة، غير أننا لا نستطيع أن نصفها جميعا بروايات المكان.ليس هذا تصنيفا يضاف إلى جملة تصنيفات الرواية،ولكن عندما يصبح المكان في النص الروائي وسيلة وغاية، أداة وموضوعا؛ أي عندما يغدو المكان أحد مكونات الحبكة الروائية، بقدر ما يشكِّل موضوع هذه الحبكة وإطارها،فإننا لن نتردد في نعت هذه الرواية برواية المكان، دون أن نقصد إلى نفي المكونات الروائية الأخرى؛فالمكان لا ينفصل عن الزمان والشخصية والحدث واللغة وغيرها من مكونات التصوير السردي الروائي. ولكن ربما كانت روايات المكان تتميز من غيرها من الروايات بأن المكان فيها مكون محوري يستقطب باقي المكونات ويخضعها له؛حيث يتحول المكان من مجرد إطار يحتوي الشخصيات والأحداث إلى مكون سردي يخلق الأحداث ويشكل الشخصيات ويصنع المصائر، إن لم نقل إنه يولد السرد ويمنحه الحياة.

في رواية "المصري" يصبح المكان محور الصراع الدرامي الذي تصوره الرواية بين أحمد الساحلي والمدينة العتيقة التي يسعى إلى السيطرة على فضاءاتها ودروبها ومبانيها وجدرانها وإلى تصفية الحساب مع سماتها "وسجنها في قمقم زجاجي مثلما سجن نجيب محفوظ القاهرة كلها في قمقمه المسحور"[1]؛ حيث تقوم الحبكة الروائية على رغبة قديمة تستبد بأستاذ مشرف على التقاعد لإنجاز مشروع روائي عن مدينته قبل انصرام الأسبوع الأول من بداية فترة تقاعده خشية أن يلقى المصير نفسه الذي لقيه صديقه عبد الكريم الصويري عندما أدركه الموت في الأسبوع الأول بعد تقاعده.لأجل ذلك صمم على مسابقة الزمن والخروج إلى أماكن المدينة العتيقة بحثا عن قصة مترابطة يخلد بها مدينته تطوان كما خلد نجيب محفوظ مدينته القاهرة بتصويره المتسق والجذاب.وفي سبيله لإنجاز المهمة تعترضه عوائق تزج به في سلسلة من الإخفاقات انتهت إلى إقراره بالهزيمة وانتظار الموت.

لقد صور الكاتب الصراع الذي خاضه أحمد الساحلي مع الأمكنة وطموحه إلى ترويض جمالها، تصويرا مفارقا ساخرا كشف للقارئ الوهم الذي وقع فيه البطل عندما خرج إلى مدينته العتيقة بحثا عن مشروعه الروائي؛ فقد آل هذا الخروج إلى إخفاقات متكررة ترجمت الزيف الذي انطوت عليه فكرة الخروج لالتقاط مادة الرواية من فضاءات المدينة.وعلى الرغم من أن الساحلي يعي تماما أن كتابة رواية المدينة أو رواية المكان تستوجب شروطا جمالية مخالفة لما يمكن أن تجود به مغامرة الخروج، إلا أنه لم يفلح في صد رغبته الغامضة في الخروج؛ فوعيه الجمالي بأسرار الصنعة الروائية وبالأشكال الجمالية المتحققة في روايات المكان، لم يشفع له في الاهتداء إلى الوعي بطبيعة المهمة الملقاة على عاتقه؛ يقول:"أنا لا أعرف بالضبط ما أريد التعبير عنه ولا كيف، لكني أواجه في هذا النهار بالذات تحديا مصيريا غامضا إما أن أنتصر عليه أو يقهرني..."[2] و يقول أيضا:" إنني لا أعرف من أين سأبدأ ولا أدرك بوضوح طبيعة المهمة التي يفترض أن تتشكل".[3]

إن الصراع الذي يعيشه الساحلي بين الوعي بأسرار الكتابة الروائية والعجز عن تخيل قصة متماسكة " جذابة تفيد في كتابة رواية المدينة"[4] جعله شخصية تراجيدية تشقى بوعيها الذي لم ينفعها في إنجاز مهمة بدت أشبه بمعركة وهمية وغير متكافئة يواجه فيها فارس عليل عدوا مجهولا عصيا.ولأجل ذلك جاء تصوير الكاتب لمواجهات البطل لأمكنة المدينة مجازيا مفعما بالمفارقة الساخرة؛ تجلى ذلك منذ اللحظة الأولى التي قرر فيها تدشين مغامرته في المدينة.لنتأمل هذه الصورة:"ونزلت الدركات المفضية إلى "الفدان" في نشوة الظافر.واخترقت قوس "الطرافين" فغمرني شعور القائد المغوار وقد امتطى صهوة فرسه واستل سيفه،ودخل المدينة منتصرا فأصبحت له مباحة"[5].

وردت هذه الصورة قبل أن يشرع البطل في إنجاز مهمة الخروج التي استقر على خطتها النهائية؛وهي صورة متوترة دلاليا تجسد تعارضا بين فعل النزول الموحي بالهاوية والسقوط،والأفعال السردية الأخرى الدالة على الاختراق والفروسية والانتصار.والحق أن هذا التوتر يجسد صراع البطل في الرواية بين الرغبة في الاختراق والانتصار وبين عائقي الإخفاق والهزيمة اللذين يحدقان به.

على هذا النحو تكثف الصورة معضلة البطل ووعيه المتوتر بين الإحساس بالنزول الواقع والهزيمة الوشيكة والتلاشي الكامن والموت المتربص من جهة، وبين الرغبة في الصعود والانتصار والتحدي والبقاء والحياة من جهة أخرى. هذه هي تراجيديا أحمد الساحلي؛ الخروج المرشَّح للسقوط، والاختراق المشوب بالهزيمة، والقوة المضمَّخة بالعلة، والتحدي المكبَّل بأغلال المصير.

وبالإضافة إلى ذلك تنطوي الصورة على مفارقة ساخرة بين طبيعة حقل الفروسية والشجاعة المستعار منه وطبيعة المستعار له المتمثل في المهمة الثقافية المبهمة التي تصدى لها سارد عليل مقيد بالخوف والعجز.والحق أن الكاتب حرص طوال خرجات البطل إلى أمكنة المدينة العتيقة، أن يصور هذا الخروج بألفاظ وجمل سردية تتناص مع حقل الفروسية والمعارك، مما شكَّل مفارقة بين المطالب الحقيقية للعمل الثقافي الروائي و بين تصرفات السارد الغريبة التي ترتبت عليها مواقف مؤلمة تنضح بسخرية مبطنة من الكاتب تجاه سارده.

ولاشك أن علاقة الكاتب بالسارد في هذه الرواية تحتاج إلى قدر من التأمل حتى نتمكن من تفسير هذه السخرية المشار إليها والكشف عن أبعادها المرتبطة بإشكال التصوير الروائي للأمكنة أو للمدينة.فقد واجه الكاتب(محمد أنقار) معضلة جمالية في كتابة رواية المدينة (أو المكان)؛كيف يمكنه ذكر أمكنة المدينة العتيقة ووصفها المفصَّل من دون أن ينزلق إلى التوثيق والوصف الجامد اللذين يتنافيان مع بلاغة التصوير الروائي، أو بتعبير آخر: كيف يمكنه رصد سمات الأمكنة وذكر أسمائها رصدا يمتزج فيه الواقعي بالتخييلي، بحيث تصير السمات الواقعية الموضوعية جزءا من الحبكة الروائية ومكونا من مكونات التصوير الروائي؟

لقد شكل هذا السؤال الجمالي مدخلا للتفكير في الحبكة المناسبة لتجسيد الإيهام بواقعية الأمكنة باعتبارها سمة طاغية في هذه الرواية؛فالكاتب مفتون ببلاغة التصوير الواقعي وتوليد التخييل الروائي من مفردات الواقع الخارجي ومعطياته المحسوسة، ولأجل ذلك كان لابد من حبكة روائية تضمن له تقديم مساحة واسعة من الوصف الواقعي التفصيلي لأمكنة المدينة من دون أن يتخلى هذا الوصف عن وظيفته السردية التخييلية.حيث قامت الحبكة على شخصية تكتفي، في تخطيطها لكتابة رواية المدينة، بالصور الوصفية المتراكمة من دون أن تهتدي-على الرغم من وعيها النظري- إلى بناء حدث قصصي يلم شتاتها في تصوير روائي منسجم.وهي حبكة سمحت للكاتب تحقيق الغايتين الآتيتين:

- أولا؛توجيه الانتباه إلى إحدى مشكلات الإبداع الروائي المتعلقة بتصوير المكان؛فالسارد العاجز عن صياغة رواية المكان أو رواية المدينة، لم يتوقف طوال صفحات سرد حكاية مشروعه الروائي الفاشل، عن الإفصاح عن المعايير التي يفتقر إليها لتصوير الأمكنة تصويرا تخييليا روائيا.فقد أعلن منذ البداية أن قصده "مشروع روائي ضخم يسيطر قصصيا على سحر المدينة العتيقة كله"،وأنه لن يقف عند حدود "حكايات" الأمكنة و"طرائف"ها ال"متداولة" وال"مدونة في كتب التاريخ المحلي"، مادامت "الخبايا المستعصية على التصوير كانت تغري(ـه) بقدر أكبر"، كما أنه "من ناحية أخرى لن [ يكتفي] باللوحات التجريدية الجميلة مثل صنيع الصباغ حينما جعل " تطوان تحكي"."[6]أي إنه أراد منذ البداية صياغة أفق جمالي لتلقي رواية المدينة مغاير للآفاق السائدة من قبيل أفق السرد التاريخي أو أفق السرد الشاعري.لقد توخى الساحلي تجسيد أفق جمالي واقعي مستوحى من نماذج الرواية العظيمة في تاريخ الإنسانية،على نحو ما نجد في روايات نجيب محفوظ وغابرييل غارثيا ماركيث وغيرهما؛هذا الأفق الذي يقتضي أن تحضر الأمكنة في الرواية باعتبارها صورا قصصية متماسكة أو قصة مترابطة متسلسلة وجذابة بدل الانسياق مع الصور الشاعرية أو الصور المتراكمة وجلب المعلومات التاريخية[7].

- ثانيا؛ذكر أمكنة المدينة وتقديمها في لوحات وصفية مستفيضة على لسان سارد حائر وتائه وعاجز عن حل لغز الكتابة الروائية؛هذا الموقف أفسح للكاتب مجال استعراض قدرته على الوصف وإشباع توقعات القارئ المتطلع إلى رؤية فضاءات المدينة العتيقة وسماتها مجسدة على الورق، على نحو ما أتاح له هذا الموقف السردي تسويغ الحضور الطاغي للوحات الوصفية في سياق نص تخييلي.لقد كان الكاتب مطالبا باستثمار سمات الأمكنة باعتبارها وظائف قصصية أو أحداثا ومواقف سردية وليست مجرد سمات موضوعية حقيقية، لأجل ذلك لم يكن تنقل السارد بين أمكنة المدينة سوى نوع من الالتحام والتفاعل بين هذه السمات والحدث الروائي الممتد والمتوتر؛ فالكاتب الذي حكى في روايته قصة بطل يواجه سلسلة من الإخفاقات التي آلت في النهاية إلى هزيمته، لم يكن يسرد في واقع الأمر سوى قصة هذه الأمكنة؛ فليست قصة أحمد الساحلي سوى قصة أمكنة المدينة العتيقة ذات السمات الإنسانية المتنوعة والمتكاملة.وكأن الكاتب أراد أن يقول لنا إن مدينة تطوان رواية مكتوبة في كل قوس ودرب وجدار ومبنى وساحة ومقهى ودكان، وما على الكاتب الروائي إلا أن يتأمل ويستنطق المكان ويترجمه إلى نص لغوي.إن عليه أن يجعل المدينة تحكي وفق مقتضيات الحكي الروائي الذي يستحوذ على القراء كما استحوذت عليهم حكايات الليالي وخرافات كليلة ودمنة وروايات نجيب محفوظ.

تطوان تحكي.

عندما أشار الساحلي في إعداده لمشروعه الروائي إلى الكاتب المغربي التطواني محمد الصباغ في عمله الإبداعي "تطوان تحكي"، فقد أراد الإشارة إلى أن النمط الشاعري الذي اختاره الصباغ في تصويره الأدبي لمدينة تطوان لا ينسجم مع الاختيار الجمالي الواقعي الذي يتوق إلى تجسيده في مشروعه الروائي.والواقع أن صوت السارد ورؤيته لا تخلوان من نبرة صوت الكاتب الذي أنجز بالفعل رواية واقعية منكرا أن يكون الصباغ قد جعل تطوان تحكي كما تزعم العبارة؛ ذلك أن وضع عبارة "تطوان تحكي" بين مزدوجتين، إشارة تحمل موقف الكاتب وسخريته من المعنى الذي يحمله عنوان كتاب الصباغ.إن العبارة في السياق الذي وردت فيه على لسان السارد، تحمل من جهة معنى صاحبها الذي يقر بأن عمله الإبداعي قد حوَّل مدينة تطوان إلى حكاية، وتحمل من جهة أخرى معنى السارد أو الكاتب الذي يشك في أن يكون كتاب الصباغ قد أفلح في تصوير مدينة تطوان تصويرا سرديا.

لأجل ذلك كانت المهمة الجمالية التي وضعها الكاتب على عاتقه في هذه الرواية، أن يصور تطوان سرديا ويجعلها بالفعل تحكي كما جعل نجيب محفوظ القاهرة تحكي.وإذا كان الحكي لا يتعارض مع الشاعرية ومع أنماط من التصوير الأدبي السائدة في الرواية المغربية من قبيل التصوير الخارق والأسطوري والرمزي والصوفي والتاريخي وغيرها من الأساليب المعتمدة في نصوص السرد الحديث،فإن رواية المصري أرادت بإثارتها لإشكال تصوير المكان أن تلفت أنظار القراء إلى ما يختزنه التصوير الواقعي من طاقة بلاغية وقدرة على جذب القراء، ربما افتقدتهما تلك الأنماط المذكورة في عديد من نماذج الرواية المغربية.

من هنا فإن التحدي الجمالي الذي واجهه الكاتب في صياغته لنموذج روائي واقعي، تمثَّل في القدرة على تحويل الوصف الواقعي المفصل للأمكنة إلى مواقف سردية ووظائف تخييلية، وذلك من دون أي تحريف لسماتها الواقعية؛ فالأوصاف المسندة إلى الأمكنة سمات واقعية لا تفارق المجال التداولي الملموس الذي يشترك في معرفته جميع القراء الذين خبروا مدينة تطوان، غير أنها في الوقت نفسه سمات تخييلية سردية تضطلع بصياغة حبكة الرواية وصورة الشخصية الروائية؛أي إن الوظيفة الوصفية والوظيفة التخييلية تتقاطعان، حيث أخذ الوصف في الرواية حيزا واسعا دون أن يتحول إلى غاية في ذاته.

إن "المصري" رواية عن المدينة وعن "رواية المدينة"؛أي إنها عمل روائي في تصوير مدينة تطوان، وفي الوقت نفسه عمل روائي قصد به صاحبه تصوير إشكال جمالي ونقدي يتعلق برواية المدينة؛ أي كيف تصاغ المدن روائيا وتغدو فضاءات جمالية قادرة على جذب القراء والرسوخ في أذهانهم؟

هذا هو السؤال الأدبي الذي اضطلع محمد أنقار بصياغته تخييليا في حبكة روائية جسد فيها المكان –كما قلت سابقا- محور صراع درامي بين السارد وبين الكتابة الروائية؛ حيث لم يفلح في ترويض مدينته والسيطرة على سحر أمكنتها في عمل روائي يخلدها به.وقد جعل الكاتب هذه الأمكنة شاهدة على عجز السارد، على نحو ما جعل سماتها الواقعية تشكِّل أبعاد صورته الشخصية وتصوغ الحدث الروائي في امتداده وتوتره؛أي إن الكاتب حرص على استثمار سمات هذه الأمكنة الواقعية لتصوير مغامرة بطله تصويرا سرديا ينبني على الامتداد المتوتر والمتصاعد. لقد جعل الكاتب أمكنة تطوان وسماتها تحكي قصة أحمد الساحلي أو لنقل تحكي قصتها التي لم يهتد إليها السارد.

سنختار للتحليل أربعة أمكنة مثَّلت ساحة المواجهة بين السارد والمدينة، على نحو ما مثَّلت إخفاقاته التي انتهت إلى الهزيمة والفشل.

1-السوق الفوقي:فضاء الضيق والزحام وصورة الرعب والاحتماء بالأم.

يمثل السوق الفوقي أول الأمكنة الني رشحها السارد لتصوير مدينة تطوان؛أي إنه محطة من محطات مغامرته في إنجاز مشروعه الروائي، أو فضاء لاختبار هذه المغامرة وكشف شخصية المغامر. إن القارئ النوعي[8] لا يفصل صورة هذا المكان بسماته الواقعية( الازدحام والضجيج والمواكب الجنائزية والتجار والبيع والشراء واختلاط الناس بالحيوانات والجنود الإسبان إبان تاريخ الحماية..) عن صورة السارد الكلية التي تجسدت في إحساسه الدائم بالعجز طوال مغامرته التي آلت إلى الفشل في النهاية.فهذه السمات يراد بها صياغة موقف سردي تخييلي إلى جانب وظيفتها التداولية.

لقد جسد السوق الفوقي تخييليا فضاء نفسيا كشف عن أهم بعد من أبعاد شخصية السارد وهو الخوف المنغرس في وجدانه منذ الطفولة:"تتلاعب بمخيلتي الهشة كمشة مبعثرة من الصور السقيمة الباردة"[9]؛صورة فقيه الكتاب بتجهمه وعصاه وترهيبه للصغار بحديثه عن أهوال الحشر، وصورة الموكب الجنائزي المخترق للساحة الضيقة في اتجاه باب المقابر، وصورة الجنود الإسبان المهرولين.هذا الخوف جعله طفلا عليلا مرتبطا بأمه:"تمسكت بأمي والتصقت بتلابيب حائكها"، ثم قوله:"رفعتني نحو صدرها"[10].

وبدل أن ينطلق خياله في فضاء الإبداع، انكفأ إلى التذكر. إن رغبة السارد في النفاذ إلى أسرار المكان أو التخيل الروائي المستوحى من ساحة السوق الفوقي يصطدمان بذكريات طفولة هشة مثخنة بالندوب ومسكونة بأحاسيس الرعب والهلع؛ ذكريات وضعته على طريق الإحباط المتربص به.

لقد بدت صورة ساحة السوق الفوقي أشبه بيوم الحشر؛ توحي كل مكوناتها بسمتي الرعب والمصير المحتوم، حيث يهيمن اللون الأحمر(التوابل-عيد الأضحى-خفان أحمران-طربوش أحمر-الحلوى الحمراء) والنعوت الدالة على الشدة(الخضرة القاتمة-المعاطف الغليظة-أحزمة سميكة- أحذية ثقيلة وشديدة السواد..).إنها صورة امتزج فيها الواقع بالتخييل؛فهل نستطيع القول إذن إن السمات التي أسندت إلى أمكنة الرواية تشكل-إلى جانب وظائفها التداولية- وظائف تخييلية أنيطت بها مهمة تصوير شخصية البطل والتسويغ السردي للنهاية التراجيدية التي آل إليها في نهاية مغامرته؟

لعل الإجابة عن هذا السؤال ستتبلور على نحو أوضح في سياق تحليل صور الأمكنة الأخرى.

2- مقهى الطرانكات: مستنقع الدخان والبذاءة وصورة الضعف.

إذا كانت السمات الواقعية لفضاء السوق الفوقي قد كشفت عن سمة الخوف المنغرسة في وجدان السارد منذ الطفولة، فإن السمات الواقعية(الصخب والدخان والبذاءة) لفضاء مقهى الطرانكات الذي رشحه السارد للتصوير في محطة أخرى من محطات مغامرته، ستكشف عن ضعفه واستسلامه والسخرية من الطريقة التي انتهجها في الإعداد لمهمته الثقافية والتاريخية والإنسانية.إن الكاتب يسخر من السارد الذي يلجأ إلى مقهى شعبي بحومة الطرانكات متربصا بحدث قصصي؛فينقلب الموقف إلى موجة من الهُزء والتهكم لم ينفع معها سوى الاستسلام للموقف الساخر الذي أجاد رواد المقهى المحششين استثماره للإيقاع به:"وقهقه الجميع..من المؤكد أن الصائح قد عرفني وعرف رتبتي الوظيفية ثم أفشى السر فانكشف خواء سوقي.بعد ذلك عادت أدوات الكيف إلى الظهور..ودمعت عيناي واختنقت..ومن المؤكد أني أمثل إليهم منغصا ثقيلا لم ينجح الصياح ولا الدخان في إزاحته فكان لزاما أن ينتقلوا إلى الخطوة القادمة حيث أمعنوا في سب بعضهم بعضا وفي تبادل الكلمات الجنسية..إلى أن أفلحوا في جعلي أتملل في مجلسي وأفلت الخيط القصصي من بين أصابعي.هكذا هبطت من سماء الإلهام إلى مستنقع الدخان فاستسلمت..وأيقنت أنهم القادرون وأنا الضعيف."[11]

لقد أظهر تصوير مقهى الطرانكات (ومعظم أمكنة هذه الرواية) إحدى وظائفها التخييلية التي تمثلت في الكشف عن مغالطات السارد والعوائق التي تفسر أزمته التي انتهت به إلى الفشل:

-تصوره الخاطئ عن أن الإبداع الروائي يطلب في الواقع الخارجي.

-رغبته في محاكاة نجيب محفوظ واستلهامه لأمكنته الروائية في تفاعله مع فضاء مقهى الطرانكات،حيث تحول الكاتب المصري من وسيط ملهم إلى عائق يبث في طريقه العجز.

- كشف المقهى عن أحد أبعاد شخصية السارد المتمثل في محافظته واشمئزازه من كل ما يخدش الحياء من مظاهر السلوك الاجتماعي الشاذ.وهذا البعد في شخصيته يتعارض مع أحد مطالب النثر السردي التي اكتشفها في مطلع شبابه عندما قرأ لأول مرة عملا روائيا سحره بصراحته وجرأته وتعريته.وكانت "القاهرة الجديدة" لنجيب محفوظ هي هذا العمل الذي فتح عينيه على دنيا السرد، عندما خرج من المدينة العتيقة والتحق بالمعهد الرسمي المنفتح على الثقافات والأجناس الأخرى.

إن وصف مقهى الطرانكات وتصويره الروائيين لا ينفصلان عن تصوير قصة إخفاقات السارد وبناء هزيمته على نحو سردي مقنع؛فالغرض الأساس من تصوير فضاء المقهى بسماته الواقعية هو الإسهام في استجلاء ورسم أبعاد شخصية السارد وخلق موقف سردي يفسر تطور الحبكة الروائية ويمهد لخاتمتها النهائية.فالمكان هنا ببذاءته ودخانه الكثيف شكَّل أول اختبار حقيقي لمغامرة السارد بالخروج إلى مواقع المدينة بحثا عن حبكة روائية.ولم تتأخر نتيجة الاختبار طويلا؛فقد جعله سلطان المكان يستسلم ويقر بضعفه.

3- المصدع: فضاء الصخب والبلل والعنف وصورة الهزيمة.

يفتتح الكاتب تصويره لخروج بطله إلى المصدع على النحو الآتي:"دقت طبول المساء معلنة اكتظاظ المصدع..في البداية اخترقت المصدع في جولة استطلاعية شاملة من أسفله..كنت أبحث عن موقع مناسب يتيح لي زاوية نظر حية.."[12].

يستعير الكاتب في تصويره لمعظم خرجات البطل إلى مواقع التصوير، ألفاظ حقلي الفروسية والمعارك.ولا ريب في أن هذا الأسلوب اختيار ينسجم مع طبيعة الحبكة الروائية العامة القائمة على تصوير سلسلة من المواجهات بين البطل والأمكنة العتيقة رغبة منه في السيطرة عليها وسجنها في قمقم روائي.فالرواية لا تفتأ تقدم البطل في أوضاع سردية قوامها المواجهات التي تنتهي إلى الإخفاق.وفي كل مواجهة يزداد القارئ تعرفا على شخصية البطل واقتناعا بشقائه ومحنته ونهايته الوشيكة.

إن المجازات الواردة في الصورة أعلاه تحيل مباشرة إلى ميدان الحرب ، مما يومئ إلى أن المواجهة هذه المرة لن تكون عادية، وأنها قد تتحول إلى معركة حقيقية ومواجهة حاسمة تضع نهاية لمشروع البطل وحلمه الروائي.وبالفعل فقد آلت مواجهته للمصدع إلى إخفاق ذريع، عندما تعرض للإهانة والضرب من أحد باعة السمك الذي ارتاب في مهمته:"..فما كان منه إلا أن مد رأسه نحوي حتى بدت عروق عنقه نافرة وزفر كالثعبان..ولم يكتف بالقذف وإنما دفعني بيده المبللة فوسخ جلبابي ورفع يده الأخرى استعدادا لصفعي..آنذاك انتشل الرجل عيارا حديديا وكاد يهوي به على رأسي..وفي لحظات الارتباك سقط مني القلم والدفتر فحاولت التقاطهما فاستغل الوحش وضعي المتخاذل وتهيأ لركلي.وعاينت الحذاء المطاطي الأسود مصوبا نحو وجهي فأغمضت عيني واتقيت رأسي بذراعي.."[13].

هذه نتيجة منطقية لتصرفات السارد غير المعقولة. ولقد اختار الكاتب أن تحدث هذه المواجهة العنيفة في المصدع باعتباره مكانا يتسم واقعيا بالعنف، وقد كان مهد لها في الموقف السردي الذي حدث في مقهى الطرانكات.

والحق أن تصوير هذا الحدث لم يرد به الكاتب سوى تصوير فضاء المصدع روائيا؛أي جعله جزء من الحبكة الروائية.ويفترض قارئ الرواية، بعد هذا الحدث الدرامي، أن هذا المكان سيضع حدا لخرجات البطل إلى الأماكن التي رشحها للتصوير، وسيكون آخر محطة في طريق مغامرته.غير أن الكاتب يخيب هذا التوقع عندما جعل بطله يواصل تحديه وينطلق في اتجاه آخر محطة من محطات مغامرته.

4-العيون:فضاء الانفتاح والبيع وصورة الانتهازية.

في فضاء العيون-المكان الرابع والأخير في المغامرة – يتفاقم اتهام البطل لذاته ويزداد شكه في مهمته حِدَّة.فبعد الخطر الذي أحدق به في المغامرة السابقة، وأصبح هدفا مباشرا للفتوات والأفاقين؛يبدو أنه دخل مغامرته الرابعة من دون أدواته( القلم والدفتر) مكتفيا بالشم والسمع والنظر:"تقدمت إلى الأمام أستطلع وأشم وأسمع" وقوله أيضا:"تركت موضعي بحثا عن الجديد أشم وأعاين وأسمع"[14].وتنسجم هذه المغامرة الصامتة مع فضاء العيون بألوانه وروائحه التي يحملها البدويون من المداشر القريبة من تطوان إلى هذا المكان الذي يتسم بالبيع؛فقد لاجظ السارد أن:"البائعات هنا لافتات للنظر" على الرغم من أن البيع سمة مشتركة بين جميع الأمكنة:"..البيع..البيع..كل واحد يبيع..كل شيء صالح للبيع..."[15] .

لقد كشف فضاء العيون ببساطته وانفتاحه وقربه من الحد الغربي للمدينة[16] عن أن البيع بشتى مظاهره هو السمة الواقعية التي استثمرها الكاتب في بناء الحبكة السردية ورسم أبعاد شخصية البطل وتفسير تحديه واستمراره في المغامرة على الرغم من طبيعته المتخوفة والأخطار التي هددته في المغامرة السابقة؛فقد كشف هذا الفضاء أن السارد بإخفاقاته المتكررة اضطر هو أيضا أن ينخرط في لعبة البيع وأن يشتري الحكايات بعدما أعياه خلقها؛فقد لجأ إلى إحدى المتسولات( قد يكون التسول شكلا آخر من أشكال البيع) منتهزا فرصة حاجتها إليه:" في تلك اللحظة الدقيقة لزم أن أكون انتهازيا"[17] وشرع في استدراجها لكي تحكي قصتها لعله يفلح في تجاوز العقم القصصي الذي عانى منه حتى الآن.

هذا هو المصير الذي انتهت إليه مغامرة البطل للسيطرة القصصية على أمكنة المدينة العتيقة؛ أن يتحول إلى انتهازي يبيع مكانته الاجتماعية مقابل الحصول على شيء وهمي عز حصوله عليه من قبل.

على هذا النحو أسهم فضاء العيون بسماته الواقعية في بناء حبكة الرواية ونسج قصة الساحلي وتشكيل صورته الشخصية الروائية الكلية، على نحو ما أسهم –إلى جانب الأمكنة الأخرى- في رسم صورة تطوان وحكايتها.

***

لقد أراد محمد أنقار أن يكتب رواية المكان وأن يلفت أنظار القراء إلى طبيعة هذا الصنف الروائي من خلال تصوير محنة بطله أحمد الساحلي الذي أخفق في إنجاز رواية عن مدينته تطوان بالمعايير الجمالية الروائية المستوحاة من أعمال نجيب محفوظ، باعتبارها نموذجا ناجحا لرواية المكان التي تنبني أساسا على قصة متماسكة وجذابة، بدل الإغراق في اللوحات الشاعرية والصور الرمزية.

إن صور الأمكنة في رواية "المصري" صور روائية تخضع بلاغتها-في المقام الأول- لمعايير الفن الروائي.ولعلها أن تكون إحدى روايات المكان العربية المعاصرة التي صاغها صاحبها مستلهما سمات بلاغة التصوير الواقعي دون أن يتنكب أساليب السرد الحديثة.

وقد سعيت في هذه القراءة إلى أن أحلل صور الأمكنة في سياق هذه البلاغة التي صاغتها الرواية في حبكتها السردية.وهذا لا يعني أن المكان في هذا العمل الروائي لا يقبل قراءات أخرى قد تظهر فيه جوانب خفية مهمة.لكن حسبنا أن نقول هنا إن الكاتب ولد في هذه المدينة وتفاعل مع سماتها وأدمن التأمل في فضائها وعايش تحولاتها التاريخية والاجتماعية، فأراد أن يخلد هذا الرصيد الوجداني في عمل روائي ممتع ينبغي أن نقرأه أولا في سياقه الأدبي.


نفسه.ص.53.[1]

نفسه.ص.48.[2]

نفسه.ص.49.[3]

نفسه.ص.64.[4]

نفسه.ص.52.[5]

نفسه. ص. 52.[6]

نفسه. ص. 51-64-93-94-107-135[7]

المقصود بهذا القارئ هو القارئ الذي يقرأ الرواية باعتبارها خطابا تخييليا نوعيا له بلاغته المخصوصة.[8]

الرواية.ص.58.[9]

نفسه.ص.59و60.[10]

نفسه. 97-100.[11]

نفسه. ص. 126-127.[12]

نفسه. ص. 182-129.[13]

نفسه. ص. 155و159.[14]

نفسه.ص.155.[15]

نفسه. ص. 154.[16]

نفسه.ص.156.[17]

هناك تعليق واحد:

د محمد صالح الحافظ - العراق - نينوى يقول...

استاذي الفاضل تحية وتقدير خالصين ... انا من المتابعين لدراساتك ومقالاتك لكن كوني بعيدا مكانيا عن موطنك فلا املك كتابا من مؤلفاتك .. فهلا تكرمت بارسال بما تجود الينا ونحن تكون لكم من الممتنين الشاكرين ...د. محمد صالح رشيد الحافظ -م.عميد كلية .ت. الأساسية ورئيس قسم اللغة العربية وكالة - جامعة الموصل / نينوى- العراق
البريد الالكتروني:majedalhawary241882@yahoo.com