الجمعة، 31 أكتوبر 2008

قراءات في كتب د. محمد مشبال: "بلاغة السرد والشخصية في كتاب: الهوى المصري في المخيلة المغربية" لسليمان الطالي


عن منشورات بلاغات صدر للباحث والناقد الدكتور محمد مشبال دراسة نقدية معنونة ب: "الهوى المصري في المخيلة المغربية: قراءات في السرد المغربي الحديث"(1) بتقديم الأديب والناقد المصري سيد البحراوي وتعتبر هذه الدراسة ـ حسب تقديرناـ إضافة نوعية في حقل الدراسات السردية الحديثة في المغرب لثلاثة عوامل أساسية:

أولا: اختلاف زاوية الرؤية النقدية التي ينطلق منها مشبال نحو مفاهيم من قبيل: البلاغة والصورة عن ماهو سائد في الدراسات السردية الحديثة بالمغرب، فليست الصورة حكرا على الشعر وحده، أو على ضرب مخصوص من أجناس النثر الفني، بل هي تمتد لتشمل كل الأجناس الأدبية والسردية القديمة والحديثة على السواء، ومن ثمة فالرواية بما هي جنس أدبي سردي بامتياز فلها بلاغتها المخصوصة التي تنطوي عليها" صورها الروائية"(2).

ثانيا: اعتماد مشبال على منهج نقدي يقترب من الأعمال الإبداعية ومن"نبض" النصوص للكشف عن خصوصياتها وجمالياتها، لدرجة يتحول فيها النقد إلى إبداع ثان يراهن على التواصل مع أكبر شريحة من القراء.فالمنهج المعتمد في هذه الدراسة على الرغم من أن الباحث لم يصرح به، إلا أنه يستوحي مفاهيمه وآلياته من مناهج أدبية متنوعة ومختلفة: تاريخية واجتماعية ونفسية وفنية وتأويلية.غير أن قناعة الباحث الفكرية والنقدية تجعله غير مقتنع بجدوى تطبيق إحداها حرفيا على النصوص الإبداعية. إن هذا الاتجاه في الكتابة:" يؤكد جدية الدعوة التي أطلقها مشبال في كتاباته السابقة لأن يكون النقد قريبا من الأعمال الإبداعية، وأن يستفيد من القديم والحديث دون خضوع لأيهما، وأن يكون قادرا على التواصل مع القارئ أيضا. وهو اتجاه منهجي ... يمثل طريقا صحيحا للخروج من أزمة النقد العربي الحديث الذي سبق لي أن وصفته بالتبعية"(3)

ثالثا: جدة الموضوع المطروق، وتمحور الدراسة على(صورة المغربي) ذي الهوى والعشق المصري الذي يسكن كيانه ووجدانه ومخيلته والذي يتجسد في ثلاثة نصوص سردية حديثة كتبها أدباء يختلفون جيلا ورؤية نقدية وإنجازا إبداعيا. النص الأول:" القاهرة تبوح بأسرارها" لعبد الكريم غلاب، والنص الثاني:"مثل صيف لن يتكرر" لمحمد برادة.والنص الثالث رواية"المصري" لمحمد أنقار.

إن" التيمة" المركزية التي تهيمن على فصول هذه الدراسة " هي تيمة" الهوى المصري باعتبارها عنصرا أساسيا في تكوين شخصية جيل من الأدباء والمثقفين المغاربة في العصر الحديث، والذين تأثروا بمصر وثقافتها وفنونها وآدابها...، فتغلغلت في أعماقهم لدرجة الهوى والعشق، وهو ماحاول هؤلاء الأدباء كل من زاويته التعبير عنه في محكياتهم السردية، سواء الذين عاشوا في مصر حقيقة كعبد الكريم غلاب ومحمد برادة، أو الذين حلموا بالسفر إليها وعاشوا فيها على مستوى المتخيل كما تجسده رواية"المصري" لمحمد أنقار.

"القاهرة تبوح بأسرارها" لعبد الكريم غلاب

يفتتح محمد مشبال دراسته النقدية بتمهيد طويل عنونه ب(الحلم المشرقي) وفيه يقدم تحليلا تاريخيا واجتماعيا ونقديا وذاتيا للهوى المصري ،دواعيه،أسبابه،تجلياته،مازجا هذا التحليل بالتجربة الذاتية والشخصية التي قضاها الباحث في القاهرة وهو يحضر رسالة(الماجستير) أواسط الثمانينيات من القرن الماضي. كما يكشف لنا هذا التمهيد عن جانب مهم من حياة محمد مشبال الجامعية والمؤثرات الثقافية والأدبية والفنية التي تحكمت في تشكيل ثقافته.

أما الفصل الأول من هذه الدراسة والمعنون ب(الهوى المصري والمغامرة السياسية) فيخصصه الباحث مشبال لدراسة العمل الإبداعي(القاهرة تبوح بأسرارها) لعبد الكريم غلاب،وهو ماجعله منذ البداية ،يخوض في السياق النوعي للعمل الأدبي من أجل تصنيفه وتحديده،مادام لا يتضمن أي إشارة إلى نوعه الأدبي ،ومن ثمة لا يوجد إطار بموجبه يحدد عبد الكريم غلاب للمتلقي مجال القراءة. فتحديد الجنس الأدبي أو النوع الأدبي ضرورة ملحة للدراس إذا بدون هذا التصنيف والتحديد تصبح عملية القراءة ضربا من الارتجال والعبث .يقول محمد مشبال ينتمي هذا العمل :"إلى جنس السيرة الذاتية ،دون أن ينفي عنه ذلك اختلاطه بأجناس سردية ونثرية أخرى من قبيل أدب الرحلة وجنس المذكرات والتأريخ والمقالة السياسية"(4).فهذا العمل على الرغم من انتمائه إلى جنس السيرة الذاتية واختلاطه بالأنواع الأدبية السالفة ،فانه لا يمنع ـ حسب مشبال ـ من اعتباره سردا تخييليا، مادام السارد يستعيد انطلاقا من الحاضر (زمن كتابة هذا العمل) ماضيا ولىّ وانقضى أحداثا ووقائع ومواقف وأحاسيس من ثنايا الذاكرة وما ظلّ عالقا في المخيلة والوجدان .فالقارئ الحصيف مدعو لأن لا يعتبر كل الأحداث والوقائع المروية حقيقة وقعت للسارد وهو يعيش في القاهرة،بل هي أحداث ووقائع خضعت للتعديل من لدن الكاتب بالحذف والزيادة والتحريف والإخفاء والتأويل لأغراض مختلفة قد تكون سياسية أو ثقافية أو أخلاقية وغيرها .لقد كتب عبد الكريم غلاب عمله بعد أن تقلد مناصب سياسية وثقافية مرموقة(5).لهذا نجده يسرد جزءا من سيرة حياته قضاها في القاهرة أواسط الثلاثينيات من القرن الماضي(1937)لمتابعة دراسته الجامعية. غير أنه مالبث أن انغمس في الفضاء السياسي والثقافي وتحول من طالب يطلب العلم إلى مناضل سياسي يناضل من اجل استقلال بلاده، وتحرر كل الدول العربية التي ترزح تحث نير الاستعمار وعودة الحرية والاستقلال. إن فضاء مصر تحول في عمل غلاب السردي إلى:" فضاء سياسي أكثر منه فضاء إنسانيا أو ثقافيا"(6)إن قاهرة الثلاثينيات من القرن الماضي هي فضاء ملائم ومناسب للعمل السياسي التحرري الذي مارسه غلاب إلى جانب ثلة من الطلبة والمناضلين السياسيين العرب. إنه فضاء جغرافي وحضاري وإنساني تحول في عمله إلى فضاء للمغامرة السياسية التي زرع بذورها فيه أستاذه الزعيم علال الفاسي ولهذا السبب نجد غلاب يزاوج في هذا العمل بين خطاب السرد الأدبي والتأريخ السياسي:" وهما صيغتان أسلوبيتان أو نمطان خطابيان كان قد أتقنهما غلاب الذي جمع في كتاباته بين المقال الصحفي السياسي والسرد الروائي"(7). فالسرد في هذا العمل ينتمي إلى جنس السيرة الذاتية، غير أن صاحبه لم يفرده لتصوير الذات والهوى لدى السارد تجاه مصر والمكان الذي يعشقه، بل جاء هذا الضرب من السرد شحيحا إذا ما قورن بسرد الوقائع والأحداث السياسية والتاريخية التي كانت القاهرة مسرحا لها. فهذا العمل ـ في حقيقة الأمر ـ قد خرق أفق انتظار القارئ، فبدل أن يكشف الكاتب عن مغامرات الذات الساردة في عشقها لفضاء القاهرة في شتى المناحي والمستويات،نلفيه يغلب وظيفتي الإخبار والخطابية إلى جانب التاريخ السياسي على حياة السارد الفردية، ففي مواضع كثيرة من هذا العمل نجد السارد يخوض في حديث مستفيض عن مصر وحكوماتها المتعاقبة،ودستورها وديمقراطيتها،وعلاقتها بالاستعمار الانجليزي ووضعها السياسي في ظل الفترة المستعادة، فترة الحرب العالمية الثانية،وتغيب الذات عن مسرح الأحداث. وهو ماجعل محمد مشبال يعلل جنوح السارد إلى هذا المنحى ويفسره بسببين اثنين الأول: راجع لأهمية الأحداث التاريخية .والسبب الثاني حجاجي إقناعي والمتمثل في دفع القارئ للتعرف على هذه الأحداث من ثمة تصديقها. إن جنوح السارد للاحتفاء بالأحداث التاريخية على حساب الأحوال الشخصية الداخلية جعل هذا العمل على حد قول محمد مشبال:"أقرب إلى جنس المذكرات منه إلى جنس السيرة

الذاتية، إذا ما أخذنا بالتمييز القديم القائل بأن المذكرات تركز على الأحداث الخارجية بينما تركز السيرة على الحياة الخاصة لصاحبها"(8).إن عبد الكريم غلاب كان حريصا على توجيه عملية الإخبار والإفادة والتعليم والتوجيه للقارئ، لدفعه إلى محاكاته إن أتيحت له نفس ظروف الكاتب في السفر إلى مصر، وهو ما توضحه سيرته بالقاهرة فهي نموذج لسيرة خليقة بالاقتداء والمحاكاة. بيد أن الأحوال النفسية والوجدانية والشعورية للسارد على الرغم من بروزها في هذا العمل السردي، إلا أن بروزها باهت ونادر من قبيل:"تصويره لولعه بالثقافة المصرية ولوداع الأسرة ولوفاة الوالد وللمشاعر التي انتابته في فرنسا قبل وصوله إلى مصر ولعلاقته بأساتذته في العلم أو الوطنية. كما أن الكاتب لم يبح بأية أسرار خاصة تشبه تلك الأسرار التي يتوقعها قارئ السيرة الذاتية الذي يقبل على هذا الجنس الأدبي مدفوعا بفضول تعرف أسراره في حياة غيره"(9). غير أن هذا القول لا ينفي بروز سمات مخصوصة تميز شخصية غلاب والتي تتطابق مع سمات شخصية السارد المؤلف، وهي سمات كلها إيجابية. من قبيل: الإخلاص والوفاء تجاه:" الزعيم الوطني والأب الروحي في النضال السياسي والأستاذ في العلم علال الفاسي"(10) وتجاه قضية الوطن، والالتزام في تأدية الأمانة والمسؤولية عندما أسندت له مهمة التدريس في إحدى مدارس القاهرة لمدة سنة وغيرها من السمات. بيد أن سفر غلاب إلى القاهرة قد كشف عن أهم سمة من سمات شخصيته وهي الهوى المصري وعشقه القاهرة باعتبارها تمثل الفضاء الرحب الذي تتجسد فيها الحرية والحداثة والتي افتقدها في بلده المغرب المقيد بالتقاليد ـ في تلك المرحلة ـ والذي لم يكن يسمح برؤية المرأة ولا ذهابها إلى السينما... إن الهوى المصري الذي سكن قلب غلاب ومخيلته قبل السفر إلى القاهرة، لم يكن في الحقيقة إلا الحلم:" ببلد متحرر من الاستعمار والتقاليد البالية، بلد يجمع بين الأصالة والمعاصرة، الأصالة المتمثلة في التشبث بالهوية العربية الإسلامية، والمعاصرة المتمثلة في الأخذ بالنظم السياسية الديمقراطية وبقوانين حرية المرأة وبنظم تعليمية حديثة"(11). إن القاهرة في وعي السارد المؤلف هي فضاء شاسع للثقافة، نسجتها أعمال أدبية وفنية رائعة من إبداعات الروائيين والأدباء ومشاهير المغنيين والممثلين... إنها الفضاء المنغرس في الوجدان والمخيلة والذاكرة العربية الجمعية تمثل في طبيعة مصر وفنونها وآدابها .وعموما إن عمق الإحساس بفتنة المتخيل الأدبي والثقافي والفني المصري لدى غلاب هو الذي حفزه للخوض في مغامرة السفر والسرد.

"مثل صيف لن يتكرر" لمحمد برادة.

عنون محمد مشبال الفصل الثاني من دراسته النقدية ب:" الهوى المصري والمغامرة الجنسية"، وقد أفرده لدراسة العمل الإبداعي:" مثل صيف لن يتكرر" لمحمد برادة، وقد جاء هذا الفصل قصيرا إذا ما قورن بالفصلين الأول والثالث، ومكثفا وعميقا من حيث المعالجة النقدية، حيث خاض مشبال في بدايته في الإشكال الأجناسي للعمل الأدبي مادام يتضمن إشارة إلى نوعه الأدبي"محكيات" الموجودة على صفحة الغلاف، والتي تحيلنا مباشرة على حكي مستعاد أو سرد تخييلي، يمتزج فيه الماضي بالحاضر، والمرجعي بالتخييلي، والواقع بالفن. إنه عمل تمتزج فيه السيرة الذاتية بالتخييل الروائي دون أن يخلو من استثمار الكاتب لكل ذخيرته في صنعة الكتابة سواء كانت قصصية روائية، أو نقدية سياسية:" غير أن هذه الأنماط ظلت مشدودة إلى الخطاب السردي المهيمن وإلى التجربة الحياتية الذاتية"(12). إن" محكيات" محمد برادة تصور تأثير الهوى المصري في وجدان السارد(حماد) منذ الصغر، وهو ماحمله على السفر إلى مصر وخوض المغامرة. كما تصور صدمة هذا الفتى بفضاء لم يكن قبل السفر إلا مجموعة من الصور الثقافية والفنية التي شكلت مخيلته. كما تعمل على تصوير تفاعل السارد مع مختلف الفضاءات الموجودة في مصر الجامعية والفنية والسياسية والثقافية والاجتماعية والجنسية. إنها باختصار تصور:" تاريخ الهوى المصري في مخيلة المغربي في أطوار مختلفة في حياة السارد ووجدانه وعقله"(13).طور الحلم بالسفر، وطور الإقامة والتفاعل والذوبان في فضاء مصر، وطور الزيارات المتكررة إلى أرض المغامرة والأحلام.

لقد ركز مشبال في دراسته للمحكيات على سمات شخصية البطل حماد/ المؤلف وكيف تفاعلت مع وعيه الذاتي وذخيرته الثقافية المصرية ليصبح الهوى المصري في مخيلته مرتبطا بالثقافة والفن والعمل السياسي والحرية الجنسية(14)ومن ثم كيف أصبح هذا الهوى والافتتان حافزا للسفر والمغامرة. فالسارد/ المؤلف قد سافر إلى القاهرة وهو محمل بماضيه الحافل ب:" العفرتة والشيطنة"(15) والذي أظهره مع أترابه من زملائه المغاربة والمصريين في مدرسة الحسينية قبل الالتحاق بالكلية. فشخصيته تختلف عن شخصية عبد الكريم غلاب المحافظة التي قدمت من فاس،كما تختلف عن شخصية " الساحلي " ـ بطل"المصري "ـ التطوانية المحافظة والعليلة. إن حماد شخصية غير منطوية أو خجولة، بل شخصية شجاعة انخرطت في العمل السياسي منذ الصغر حيث:" شارك في المظاهرات وهو لم يتجاوز العاشرة، وعاشر أصدقاء الفصل الدراسي الذين أنشأوا خلية مقاومة مسلحة في 1954"(16)لذلك لاغرابة أن نجده غير متردد في التطوع للتدريب في أحد معسكرات القاهرة على إطلاق النار بعد العدوان الثلاثي على مصر وعقب تأميم قناة السويس، لقد زاوج بين الثقافة والسياسة إلى أن أصبح مثقفا وسياسيا يساريا يؤمن بالتحرر الخلقي والاجتماعي، ويخوض مغامرات جنسية مثيرة مع نساء اللذة العابرة والعلاقات الملتبسة، هذه المغامرات الجنسية قد استوحاها من أبطال السينما المصرية التي أدمن مشاهدتها مند طفولته بفاس، حاول بعد ذلك أن يحاكيها بالفعل في مصر .

إن واقع (المحكيات) لاتصور بطلا يبحث عن تجسيد صور الحب السينمائية المكبوتة فقط، بقدر ماتصور بطلا نهما وشبقا لا هم له سوى إشباع غرائزه الجنسية مع نساء من مختلف الطبقات الاجتماعية والثقافية. لقد خاض حماد /البطل هذه المغامرات الجنسية مع نساء القاهرة منذ أول زيارة له لمصر، لم تنقطع حتى في زياراته العابرة بعد أن أصبح أستاذا جامعيا ومثقفا عربيا بارزا، وهي مغامرات جنسية وعلاقات غرامية تطبعها الحسية بحيث تمثل اتجاها في الكتابة الروائية العربية الحديثة؛ تنطوي على الجرأة وتعرية الواقع، هدفها التواصل مع القارئ برؤية جديدة من أجل إمتاعه وإقناعه، ودفعه للتحرر من كل القيود والتقاليد التي تعيق حريته. فالكاتب يصدر عن مبدأ أخلاقي مناقض لمبدأ الحرص على طهارة المظاهر، والتستر الذي يتحلى به الخطاب الثقافي الرسمي في نظرته للمرأة والرجل على السواء. إنها نظرة إبداعية ورؤية نقدية جريئة، تنسجم إلى حد بعيد مع رؤية الكاتب للعالم وللكتابة ولمجال القيم مادام ينتمي إلى جيل الأدباء والنقاد الحداثيين بالمغرب.

لقد حاول حماد/المؤلف أن يدعم موقفه ونزوعه للمغامرات الجنسية مستندا إلى رأي لنجيب محفوظ يدعو فيه إلى تجديد الأخلاق بمعناها الواسع، فليس شعر أبي نواس مثلا والموصوف بالإباحية سوى:" دعوة إلى أخلاق جديدة تتمثل في المطالبة بالحرية والتخلص من المحرمات"(17) وقياسا على تجربة أبي نواس يمكن أن نفهم كل التجارب الإبداعية الروائية العربية الحديثة التي صورت الرغبة الجنسية عند الرجل والمرأة، بما فيها محكيات محمد برادة التي تصور سيرة حياته بالقاهرة(18).غير أن محمد مشبال في تقييمه للصور الجنسية في المحكيات لا يستند فقط إلى المسوّغ النقدي العام الذي حاول الكاتب أن يدعم به موقفه ونزوعه للمغامرات الجنسية وإن كانت له وجاهته النقدية، وإنما ينتقد الصورة التي صوّر بها الكاتب بطله باعتباره:"فارسا أو دنجوانا في كل المواقف الجنسية... لاتعتريه أحيانا لحظات ضعف إنساني"(19). كما ينتقد مشبال صور مغامرات السارد مع النساء بحيث يهيمن عليها التصوير الحسي في إغفال شبه تام لجانب المشاعر الإنسانية الداخلية لهن، باعتبارها مادة دسمة جديرة بالتصوير لإغناء هذه المحكيات. غير أن قوله هذا لاينفي عما خصصه الكاتب من صور روائية لمشاهد وفسحات إنسانية خاصة تعلق بها في القاهرة أو تفاعل معها مثل "أم فتحية"الخادمة النوبية،ومثل السيدة " زينات" وغيرها .بيد أن الملاحظة التي استرعت انتباه مشبال فيما سرده الكاتب من صور روائية عن:" الجامعة وأساتذتها وعموم المثقفين الذين يفترض أن يكون قد تفاعل معهم ،لا يستجيب لتوقعات قارئ مصاب بالهوى المصري"(20)،ولهذا لجأ- في نظره- إلى تخصيص بعض الصفحات من محكياته لروايات نجيب محفوظ وللحوار الذي أجراه معه بمناسبة حصوله على جائزة نوبل،وكأن الكاتب أراد أن يحدث نوعا من التوازن بين مختلف جوانب الحياة في هذا العمل(21).

وعموما يمكن القول إن هذه المحكيات تمثل من حيث وظيفتها البلاغية التداولية نصا سرديا تخييليا لصورة البطل النموذجية، ولصورة المثقف المغربي الذي حلم بالسفر إلى مصر مثله مثل معظم المغاربة في حقبة تاريخية مهمة من تاريخ تشكل الشخصية المغربية في العصر الحديث. إنها باختصار محكيات تزاوج بين استبطان الذات والغوص في أصقاعها الدفينة لمحاورتها، والتواصل مع المتلقي في نفس الوقت، ودعوته لأن يرى الكاتب نموذجا للأديب والمثقف المغربي الذي عاش تجربة حياة خليقة بالاقتداء والمحاكاة.

رواية "المصري" لمحمد أنقار

أفرد محمد مشبال الفصل الثالث من دراسته النقدية لقراءة رواية"المصري" لمحمد أنقار(21). وقد عنون هذا الفصل ب:( الهوى المصري والمغامرة الروائية) وهو يعتبر من أطول فصول هذه الدراسة، نظرا للمساحة الشاسعة التي خصصها الباحث لتحليل الرواية وتأويلها، لما تنطوي عليه من أسئلة تدعو للتفكير بواسطة أساليبها البلاغية والتخييلية، منها الإبداعي والنقدي والتاريخي والجغرافي والثقافي، إنها تتوخى تصوير تأثير الهوى المصري في مخيلة الإنسان المغربي والذي لا يتجسد في المغامرة والسفر الحقيقي كما هو الشأن بالنسبة لعبد الكريم غلاب ومحمد برادة، بل هو سفر ذهني يتحقق عبر التخييل والسرد.

إن رواية"المصري" هي قصة أستاذ مغربي عليل مشرف على التقاعد يتطلع إلى أن يكتب رواية ساحرة وفاتنة عن مدينته "تطوان" مثلما صنع نجيب محفوظ بمدينة القاهرة، غير أن العجز عن تنفيذ هذا المشروع سيسلمه للهزيمة والسقوط التراجيدي. إن الرغبة في الكتابة والإبداع عند السارد/أحمد الساحلي هي رغبة في تحدي الموت، ومواجهة المصير المأساوي الذي استبد به عقب وفاة رفيقه في الطفولة والعمل(عبد الكريم الصويري) بعد أسبوع واحد من تقاعده، كما أنها رغبة تستعيض عن العجز في تحقيق حلمه المشرقي بالسفر والمغامرة الحقيقية في فضاء مصر. إن الهوى المصري يصبح في هذه الرواية مرادفا للرغبة في الإبداع الروائي والتألق التي أوحى بها الكاتب الملهم نجيب محفوظ، والثقافة المصرية.

فما إن اطلع السارد على رواية"القاهرة الجديدة"لنجيب محفوظ حتى حدث تحول عميق على مستوى رؤيته لذاته وعلاقاته مع الآخرين ومحيطه الخارجي، كما حدث تحول عميق على مستوى وعيه الجمالي وتفكيره"الأجناسي"، فقد تحول السارد من مثقف تقليدي يعشق الشعر ويجيد الإعراب، إلى مثقف يرتبط بالواقع الاجتماعي ويعشق السرد ويحلم بالكتابة، غير أن افتتان السارد بنجيب محفوظ لم يقتصر على "القاهرة الجديدة"فحسب، بل تعداه إلى الافتتان برواياته الأخرى وببعض أبطالها(عايدة بطلة الثلاثية)و(نور بطلة اللص والكلاب) وغيرها.لقد مثلت له روايات نجيب محفوظ وعوالمها التخييلية الأسرة الخيالية البديلة التي ستحتضن الساحلي وتجعله يعيش حياة متناقضة ومزدوجة موزعا بين حياة تقليدية مكبلة بالمواضعات الاجتماعية المفروضة، وحياة خاصة ينسجها بخياله تحلق به بعيدا في أجواء الحرية والقيم المثالية التي افتقدها في محيطه. لقد افتتن أحمد الساحلي بالثقافة المصرية حتى توهم في البداية أنه يمكن أن يخرج إلى دروب مدينته العتيقة ليلتقط مادة قصصية ينسج منها رواية فاتنة عن مدينته"تطوان"، بيد أن هذا الوهم سرعان ما سيتبدد لأسباب متعددة منها ما يرتبط بالذات، ومنها ما يرتبط بالزمان والمكان. فالشيخوخة وما ارتبط بها من أدواء جسدية ونفسية، والالتزام بالمواضعات الاجتماعية وتأجيل الكتابة، والموقف المستهجن من السرد من طرف بعض أصدقائه(المحامي بنعيسى) والذي يرى في الرواية خيالا محضا يبتعد عن الحقيقة والواقع، والإهانة والضرب الذي أوشك أن يتعرض له من طرف السماك عندما حاول أن يصوغ حبكة قصصية تليق بوصف (السويقة)... هذه كلها أسباب وعوائق حالت دون تحقيق مشروعه الروائي.

إن أهمية رواية "المصري"ـ حسب مشبال ـ لا تتمثل في تصويرها الروائي لمدينة تطوان العتيقة فحسب، بل تتمثل في تصويرها معضلة كتابة الرواية،ودوافع المغامرة الروائية عند البطل وكيفية تشكلها،لقد جعلت تأمل الأدب أو الرواية موضوعا لها، ولهذا السبب نلفيها تخوض في إشكالات جمة تتعلق بنشأة العمل الروائي وهل هو حصيلة إبداع دفعة واحدة، أم هو تراكم لصور متفرقة في مراحل زمنية مختلفة، كما تخوض في إشكال نسج تلك الصور المتفرقة هل بالاعتماد على الوصف أو السرد أم الجمع بينهما، وهل بنسج الواقع أم بالاعتماد على التخييل، وكيف يمكن الاهتداء إلى الأحداث القصصية التي تلحم الصور الجاهزة...؟(22).

إن ما تضمره الرواية من أسئلة حول معضلة الكتابة الروائية، لينم ـ في الحقيقة ـ عن وعي السارد بأصول الصنعة الروائية، كما ينم عن وعي المؤلف/ محمد أنقار بنظرية الرواية وبتقنيات كتابتها، حيث سبق له أن قدّم في هذا المجال بحثا للدكتوراه(23)،بالإضافة إلى العديد من الدراسات المنشورة في المجلات النقدية الرصينة. إن هذه الأسئلة المثارة أو المستضمرة في الرواية، جعلت الباحث محمد مشبال يفتح الباب مشرعا في قراءته وتحليله للرواية لمجال التأويل، حيث وقف على إشكالية العلاقة بين الشعر والنثر باعتبارها مبحثا شغل التفكير البلاغي والنقدي العربي القديم والحديث في نفس الوقت، كما وقف على الدوافع التي تحكمت في تغيير نظرة السارد للشعر وكيف تحول اهتمامه إلى السرد(24). فمشبال ينطلق في تفسيره لهذه الرواية من سياقها الروائي العام، وما توحي إليه من دلالات، حيث عقد مقارنة بين سمات شخصية السارد أحمد الساحلي وضون كيخوطي دي لاما نشا لثربانطيس(25)، ليقف على نقط التشابه والاختلاف بينهما كثيرة؛ فإذا كان ضون كيخوطي قد افتتن بالأدب الفروسي فأراد أن يكون فارسا في زمن انتهت فيه الفروسية، فإن احمد الساحلي افتتن بروايات نجيب محفوظ فخرج إلى دروب مدينته العتيقة"تطوان"بحثا عن حبكة قصصية يبخل بها الواقع.لقد واجه كل منهما الواقع بالوهم؛ ولهذا ارتكبا حماقات بوحي من المتخيل الأدبي الذي تحكّم فيهما؛ فبالوهم استطاع كيخوطي أن يثبت وجوده باعتباره فارسا جوّالا،وعندما أراد أن يتخلى عنه في أواخر أيامه ويوّاجه الحقيقة كان ذلك إعلانا عن مرضه وعلامة على موته. وبالوهم ـ كذلك ـاستطاع الساحلي أن يخفف عن ذاته من عبء أسرته ومدينته بحيث إذا ما فكّرفي التخلي عن إنجاز مشروعه الروائي فسيكون ذلك إيذانا بالموت.

لقد فسّر مشبال معضلة أحمد الساحلي في الإبداع الروائي بالمعركة التي كان يخوضها السارد مع الخيال القصصي والذي لم يكن يسعفه في نسج حبكة مشوقة للرواية. لقد كان يجد نفسه ينحرف عن ذلك إلى التسجيل والتأريخ؛ فهو على الرغم من وعيه بأهمية السمات:" التي يفرزها اختلاط الناس بالأمكنة" (26)، وبأهمية الصور القصصية في:" البناء القصصي المتسق القادر على جذب القراء والتواصل معهم"(27)، فإنه كان يجد نفسه عاجزا عن هذه الصنعة القصصية ومنساقا وراء المعلومات والأسلوب التقريري.

لقد قصد محمد أنقار مخاتلة القارئ قصدا، ففي الوقت الذي أعلن فيه على لسان السارد بعجزه عن إنجاز مشروعه الروائي، يكون المؤلّف قد أبدع وأنجز روايته بالفعل، ولن يكتفي بذلك فقط ، بل سينجز رواية جديدة معنونة ب : " باريو مالقا" (28) تجيب عن كثير من الأسئلة المثارة والمستضمرة في روايته " المصري".

المراجع

(1)"الهوى المصري في المخيلة المغربية: قراءات في السرد المغربي الحديث" د: محمد مشبال،ط . I ، 2007منشورات بلاغاتt، القصر الكبير.

(2)يمكن للقارئ الرجوع بصدد هذا المفهوم ل:" بناء الصورة في الرواية الاستعمارية: صورة المغرب في الرواية الاسبانية" د: محمد أنقار ط.I،يناير 1994، مكتبة الإدريسي للنثر والتوزيع، تطوان.

"الصورة في الرواية" لستيفن أولمان،ترجمة:رضوان العيادي ومحمد مشبال ط.I.1995، منشورات مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة.

(3)"الهوى المصري في المخيلة المغربية" محمد مشبال، مقدمة سيد البحراوي،ص:11.

(4)نفسه ص:53.

(5) " ص:55.

(6) " ص:55.

(7) " ص:57.

(8) " ص:72.

(9) " ص: 73.

(10)" القاهرة تبوح بأسرارها" لعبد الكريم غلاب ضمن سلسلة كتاب الهلال العدد591مارس 2000ص:279.

(11)"الهوى المصري" ص:62

(12)نفسه : ص: 77.

(13) " : ص: 79.

(14) " : ص : 88.

(15) " مثل صيف لن يتكرر"محمد برادة،منشورات الفنك،الدار البيضاء-المغرب،1999.ص:14.

(16)نفسه ص : 120.

(17) نفسه : ص : 164.

(18) الهوى المصري ص : 85.

(19) نفسه ص: 87.

(20) " " : 87.

(21)"المصري" محمد أنقار،ط.I، عن روايات الهلال بالقاهرة العدد659 نوفمبر2003.

(22)" الهوى المصري" ص:144.

(23) "بناء الصورة في الرواية الاستعمارية"محمد أنقار.(مرجع مذكور).

(24)" الهوى المصري"من ص113إلى 116.

(25)نفسه ص:127و128و129و149.

(26) نفسه : ص: 156.

(27) " " :138.

(28) "باريو مالقا" محمد أنقار،ط،I،2007،مطبعة أم ـ الأمل شارع الجامعة العربية، رقم19،تطوان.

كتاب د. محمد مشبال: البلاغة والأصول، دراسة في أسس التفكير البلاغي العربي. (نشر دار إفريقيا الشرق.)



كتاب د. محمد مشبال: أسرار المقد الأدبي "مقالات في النقد والتواصل"



كتاب د. محمد مشبال: بلاغة النادرة، نشر: دار إفريقيا الشرق.



كتاب ستيفان أولمان: الصورة في الرواية، ترجمة: رضوان العيادي ومحمد مشبال



الأربعاء، 29 أكتوبر 2008

كتاب د. محمد مشبال: مقولات بلاغية في تحليل الشعر



دراسات في السرد الحديث: صورة تطوان في رواية"المصري" تقاطع الواقع والتخييل


رواية المدينة:إشكال التصوير.

لاشك أن المكان مكون أساس من مكونات التصوير الروائي؛ففي كل الروايات أمكنة، غير أننا لا نستطيع أن نصفها جميعا بروايات المكان.ليس هذا تصنيفا يضاف إلى جملة تصنيفات الرواية،ولكن عندما يصبح المكان في النص الروائي وسيلة وغاية، أداة وموضوعا؛ أي عندما يغدو المكان أحد مكونات الحبكة الروائية، بقدر ما يشكِّل موضوع هذه الحبكة وإطارها،فإننا لن نتردد في نعت هذه الرواية برواية المكان، دون أن نقصد إلى نفي المكونات الروائية الأخرى؛فالمكان لا ينفصل عن الزمان والشخصية والحدث واللغة وغيرها من مكونات التصوير السردي الروائي. ولكن ربما كانت روايات المكان تتميز من غيرها من الروايات بأن المكان فيها مكون محوري يستقطب باقي المكونات ويخضعها له؛حيث يتحول المكان من مجرد إطار يحتوي الشخصيات والأحداث إلى مكون سردي يخلق الأحداث ويشكل الشخصيات ويصنع المصائر، إن لم نقل إنه يولد السرد ويمنحه الحياة.

في رواية "المصري" يصبح المكان محور الصراع الدرامي الذي تصوره الرواية بين أحمد الساحلي والمدينة العتيقة التي يسعى إلى السيطرة على فضاءاتها ودروبها ومبانيها وجدرانها وإلى تصفية الحساب مع سماتها "وسجنها في قمقم زجاجي مثلما سجن نجيب محفوظ القاهرة كلها في قمقمه المسحور"[1]؛ حيث تقوم الحبكة الروائية على رغبة قديمة تستبد بأستاذ مشرف على التقاعد لإنجاز مشروع روائي عن مدينته قبل انصرام الأسبوع الأول من بداية فترة تقاعده خشية أن يلقى المصير نفسه الذي لقيه صديقه عبد الكريم الصويري عندما أدركه الموت في الأسبوع الأول بعد تقاعده.لأجل ذلك صمم على مسابقة الزمن والخروج إلى أماكن المدينة العتيقة بحثا عن قصة مترابطة يخلد بها مدينته تطوان كما خلد نجيب محفوظ مدينته القاهرة بتصويره المتسق والجذاب.وفي سبيله لإنجاز المهمة تعترضه عوائق تزج به في سلسلة من الإخفاقات انتهت إلى إقراره بالهزيمة وانتظار الموت.

لقد صور الكاتب الصراع الذي خاضه أحمد الساحلي مع الأمكنة وطموحه إلى ترويض جمالها، تصويرا مفارقا ساخرا كشف للقارئ الوهم الذي وقع فيه البطل عندما خرج إلى مدينته العتيقة بحثا عن مشروعه الروائي؛ فقد آل هذا الخروج إلى إخفاقات متكررة ترجمت الزيف الذي انطوت عليه فكرة الخروج لالتقاط مادة الرواية من فضاءات المدينة.وعلى الرغم من أن الساحلي يعي تماما أن كتابة رواية المدينة أو رواية المكان تستوجب شروطا جمالية مخالفة لما يمكن أن تجود به مغامرة الخروج، إلا أنه لم يفلح في صد رغبته الغامضة في الخروج؛ فوعيه الجمالي بأسرار الصنعة الروائية وبالأشكال الجمالية المتحققة في روايات المكان، لم يشفع له في الاهتداء إلى الوعي بطبيعة المهمة الملقاة على عاتقه؛ يقول:"أنا لا أعرف بالضبط ما أريد التعبير عنه ولا كيف، لكني أواجه في هذا النهار بالذات تحديا مصيريا غامضا إما أن أنتصر عليه أو يقهرني..."[2] و يقول أيضا:" إنني لا أعرف من أين سأبدأ ولا أدرك بوضوح طبيعة المهمة التي يفترض أن تتشكل".[3]

إن الصراع الذي يعيشه الساحلي بين الوعي بأسرار الكتابة الروائية والعجز عن تخيل قصة متماسكة " جذابة تفيد في كتابة رواية المدينة"[4] جعله شخصية تراجيدية تشقى بوعيها الذي لم ينفعها في إنجاز مهمة بدت أشبه بمعركة وهمية وغير متكافئة يواجه فيها فارس عليل عدوا مجهولا عصيا.ولأجل ذلك جاء تصوير الكاتب لمواجهات البطل لأمكنة المدينة مجازيا مفعما بالمفارقة الساخرة؛ تجلى ذلك منذ اللحظة الأولى التي قرر فيها تدشين مغامرته في المدينة.لنتأمل هذه الصورة:"ونزلت الدركات المفضية إلى "الفدان" في نشوة الظافر.واخترقت قوس "الطرافين" فغمرني شعور القائد المغوار وقد امتطى صهوة فرسه واستل سيفه،ودخل المدينة منتصرا فأصبحت له مباحة"[5].

وردت هذه الصورة قبل أن يشرع البطل في إنجاز مهمة الخروج التي استقر على خطتها النهائية؛وهي صورة متوترة دلاليا تجسد تعارضا بين فعل النزول الموحي بالهاوية والسقوط،والأفعال السردية الأخرى الدالة على الاختراق والفروسية والانتصار.والحق أن هذا التوتر يجسد صراع البطل في الرواية بين الرغبة في الاختراق والانتصار وبين عائقي الإخفاق والهزيمة اللذين يحدقان به.

على هذا النحو تكثف الصورة معضلة البطل ووعيه المتوتر بين الإحساس بالنزول الواقع والهزيمة الوشيكة والتلاشي الكامن والموت المتربص من جهة، وبين الرغبة في الصعود والانتصار والتحدي والبقاء والحياة من جهة أخرى. هذه هي تراجيديا أحمد الساحلي؛ الخروج المرشَّح للسقوط، والاختراق المشوب بالهزيمة، والقوة المضمَّخة بالعلة، والتحدي المكبَّل بأغلال المصير.

وبالإضافة إلى ذلك تنطوي الصورة على مفارقة ساخرة بين طبيعة حقل الفروسية والشجاعة المستعار منه وطبيعة المستعار له المتمثل في المهمة الثقافية المبهمة التي تصدى لها سارد عليل مقيد بالخوف والعجز.والحق أن الكاتب حرص طوال خرجات البطل إلى أمكنة المدينة العتيقة، أن يصور هذا الخروج بألفاظ وجمل سردية تتناص مع حقل الفروسية والمعارك، مما شكَّل مفارقة بين المطالب الحقيقية للعمل الثقافي الروائي و بين تصرفات السارد الغريبة التي ترتبت عليها مواقف مؤلمة تنضح بسخرية مبطنة من الكاتب تجاه سارده.

ولاشك أن علاقة الكاتب بالسارد في هذه الرواية تحتاج إلى قدر من التأمل حتى نتمكن من تفسير هذه السخرية المشار إليها والكشف عن أبعادها المرتبطة بإشكال التصوير الروائي للأمكنة أو للمدينة.فقد واجه الكاتب(محمد أنقار) معضلة جمالية في كتابة رواية المدينة (أو المكان)؛كيف يمكنه ذكر أمكنة المدينة العتيقة ووصفها المفصَّل من دون أن ينزلق إلى التوثيق والوصف الجامد اللذين يتنافيان مع بلاغة التصوير الروائي، أو بتعبير آخر: كيف يمكنه رصد سمات الأمكنة وذكر أسمائها رصدا يمتزج فيه الواقعي بالتخييلي، بحيث تصير السمات الواقعية الموضوعية جزءا من الحبكة الروائية ومكونا من مكونات التصوير الروائي؟

لقد شكل هذا السؤال الجمالي مدخلا للتفكير في الحبكة المناسبة لتجسيد الإيهام بواقعية الأمكنة باعتبارها سمة طاغية في هذه الرواية؛فالكاتب مفتون ببلاغة التصوير الواقعي وتوليد التخييل الروائي من مفردات الواقع الخارجي ومعطياته المحسوسة، ولأجل ذلك كان لابد من حبكة روائية تضمن له تقديم مساحة واسعة من الوصف الواقعي التفصيلي لأمكنة المدينة من دون أن يتخلى هذا الوصف عن وظيفته السردية التخييلية.حيث قامت الحبكة على شخصية تكتفي، في تخطيطها لكتابة رواية المدينة، بالصور الوصفية المتراكمة من دون أن تهتدي-على الرغم من وعيها النظري- إلى بناء حدث قصصي يلم شتاتها في تصوير روائي منسجم.وهي حبكة سمحت للكاتب تحقيق الغايتين الآتيتين:

- أولا؛توجيه الانتباه إلى إحدى مشكلات الإبداع الروائي المتعلقة بتصوير المكان؛فالسارد العاجز عن صياغة رواية المكان أو رواية المدينة، لم يتوقف طوال صفحات سرد حكاية مشروعه الروائي الفاشل، عن الإفصاح عن المعايير التي يفتقر إليها لتصوير الأمكنة تصويرا تخييليا روائيا.فقد أعلن منذ البداية أن قصده "مشروع روائي ضخم يسيطر قصصيا على سحر المدينة العتيقة كله"،وأنه لن يقف عند حدود "حكايات" الأمكنة و"طرائف"ها ال"متداولة" وال"مدونة في كتب التاريخ المحلي"، مادامت "الخبايا المستعصية على التصوير كانت تغري(ـه) بقدر أكبر"، كما أنه "من ناحية أخرى لن [ يكتفي] باللوحات التجريدية الجميلة مثل صنيع الصباغ حينما جعل " تطوان تحكي"."[6]أي إنه أراد منذ البداية صياغة أفق جمالي لتلقي رواية المدينة مغاير للآفاق السائدة من قبيل أفق السرد التاريخي أو أفق السرد الشاعري.لقد توخى الساحلي تجسيد أفق جمالي واقعي مستوحى من نماذج الرواية العظيمة في تاريخ الإنسانية،على نحو ما نجد في روايات نجيب محفوظ وغابرييل غارثيا ماركيث وغيرهما؛هذا الأفق الذي يقتضي أن تحضر الأمكنة في الرواية باعتبارها صورا قصصية متماسكة أو قصة مترابطة متسلسلة وجذابة بدل الانسياق مع الصور الشاعرية أو الصور المتراكمة وجلب المعلومات التاريخية[7].

- ثانيا؛ذكر أمكنة المدينة وتقديمها في لوحات وصفية مستفيضة على لسان سارد حائر وتائه وعاجز عن حل لغز الكتابة الروائية؛هذا الموقف أفسح للكاتب مجال استعراض قدرته على الوصف وإشباع توقعات القارئ المتطلع إلى رؤية فضاءات المدينة العتيقة وسماتها مجسدة على الورق، على نحو ما أتاح له هذا الموقف السردي تسويغ الحضور الطاغي للوحات الوصفية في سياق نص تخييلي.لقد كان الكاتب مطالبا باستثمار سمات الأمكنة باعتبارها وظائف قصصية أو أحداثا ومواقف سردية وليست مجرد سمات موضوعية حقيقية، لأجل ذلك لم يكن تنقل السارد بين أمكنة المدينة سوى نوع من الالتحام والتفاعل بين هذه السمات والحدث الروائي الممتد والمتوتر؛ فالكاتب الذي حكى في روايته قصة بطل يواجه سلسلة من الإخفاقات التي آلت في النهاية إلى هزيمته، لم يكن يسرد في واقع الأمر سوى قصة هذه الأمكنة؛ فليست قصة أحمد الساحلي سوى قصة أمكنة المدينة العتيقة ذات السمات الإنسانية المتنوعة والمتكاملة.وكأن الكاتب أراد أن يقول لنا إن مدينة تطوان رواية مكتوبة في كل قوس ودرب وجدار ومبنى وساحة ومقهى ودكان، وما على الكاتب الروائي إلا أن يتأمل ويستنطق المكان ويترجمه إلى نص لغوي.إن عليه أن يجعل المدينة تحكي وفق مقتضيات الحكي الروائي الذي يستحوذ على القراء كما استحوذت عليهم حكايات الليالي وخرافات كليلة ودمنة وروايات نجيب محفوظ.

تطوان تحكي.

عندما أشار الساحلي في إعداده لمشروعه الروائي إلى الكاتب المغربي التطواني محمد الصباغ في عمله الإبداعي "تطوان تحكي"، فقد أراد الإشارة إلى أن النمط الشاعري الذي اختاره الصباغ في تصويره الأدبي لمدينة تطوان لا ينسجم مع الاختيار الجمالي الواقعي الذي يتوق إلى تجسيده في مشروعه الروائي.والواقع أن صوت السارد ورؤيته لا تخلوان من نبرة صوت الكاتب الذي أنجز بالفعل رواية واقعية منكرا أن يكون الصباغ قد جعل تطوان تحكي كما تزعم العبارة؛ ذلك أن وضع عبارة "تطوان تحكي" بين مزدوجتين، إشارة تحمل موقف الكاتب وسخريته من المعنى الذي يحمله عنوان كتاب الصباغ.إن العبارة في السياق الذي وردت فيه على لسان السارد، تحمل من جهة معنى صاحبها الذي يقر بأن عمله الإبداعي قد حوَّل مدينة تطوان إلى حكاية، وتحمل من جهة أخرى معنى السارد أو الكاتب الذي يشك في أن يكون كتاب الصباغ قد أفلح في تصوير مدينة تطوان تصويرا سرديا.

لأجل ذلك كانت المهمة الجمالية التي وضعها الكاتب على عاتقه في هذه الرواية، أن يصور تطوان سرديا ويجعلها بالفعل تحكي كما جعل نجيب محفوظ القاهرة تحكي.وإذا كان الحكي لا يتعارض مع الشاعرية ومع أنماط من التصوير الأدبي السائدة في الرواية المغربية من قبيل التصوير الخارق والأسطوري والرمزي والصوفي والتاريخي وغيرها من الأساليب المعتمدة في نصوص السرد الحديث،فإن رواية المصري أرادت بإثارتها لإشكال تصوير المكان أن تلفت أنظار القراء إلى ما يختزنه التصوير الواقعي من طاقة بلاغية وقدرة على جذب القراء، ربما افتقدتهما تلك الأنماط المذكورة في عديد من نماذج الرواية المغربية.

من هنا فإن التحدي الجمالي الذي واجهه الكاتب في صياغته لنموذج روائي واقعي، تمثَّل في القدرة على تحويل الوصف الواقعي المفصل للأمكنة إلى مواقف سردية ووظائف تخييلية، وذلك من دون أي تحريف لسماتها الواقعية؛ فالأوصاف المسندة إلى الأمكنة سمات واقعية لا تفارق المجال التداولي الملموس الذي يشترك في معرفته جميع القراء الذين خبروا مدينة تطوان، غير أنها في الوقت نفسه سمات تخييلية سردية تضطلع بصياغة حبكة الرواية وصورة الشخصية الروائية؛أي إن الوظيفة الوصفية والوظيفة التخييلية تتقاطعان، حيث أخذ الوصف في الرواية حيزا واسعا دون أن يتحول إلى غاية في ذاته.

إن "المصري" رواية عن المدينة وعن "رواية المدينة"؛أي إنها عمل روائي في تصوير مدينة تطوان، وفي الوقت نفسه عمل روائي قصد به صاحبه تصوير إشكال جمالي ونقدي يتعلق برواية المدينة؛ أي كيف تصاغ المدن روائيا وتغدو فضاءات جمالية قادرة على جذب القراء والرسوخ في أذهانهم؟

هذا هو السؤال الأدبي الذي اضطلع محمد أنقار بصياغته تخييليا في حبكة روائية جسد فيها المكان –كما قلت سابقا- محور صراع درامي بين السارد وبين الكتابة الروائية؛ حيث لم يفلح في ترويض مدينته والسيطرة على سحر أمكنتها في عمل روائي يخلدها به.وقد جعل الكاتب هذه الأمكنة شاهدة على عجز السارد، على نحو ما جعل سماتها الواقعية تشكِّل أبعاد صورته الشخصية وتصوغ الحدث الروائي في امتداده وتوتره؛أي إن الكاتب حرص على استثمار سمات هذه الأمكنة الواقعية لتصوير مغامرة بطله تصويرا سرديا ينبني على الامتداد المتوتر والمتصاعد. لقد جعل الكاتب أمكنة تطوان وسماتها تحكي قصة أحمد الساحلي أو لنقل تحكي قصتها التي لم يهتد إليها السارد.

سنختار للتحليل أربعة أمكنة مثَّلت ساحة المواجهة بين السارد والمدينة، على نحو ما مثَّلت إخفاقاته التي انتهت إلى الهزيمة والفشل.

1-السوق الفوقي:فضاء الضيق والزحام وصورة الرعب والاحتماء بالأم.

يمثل السوق الفوقي أول الأمكنة الني رشحها السارد لتصوير مدينة تطوان؛أي إنه محطة من محطات مغامرته في إنجاز مشروعه الروائي، أو فضاء لاختبار هذه المغامرة وكشف شخصية المغامر. إن القارئ النوعي[8] لا يفصل صورة هذا المكان بسماته الواقعية( الازدحام والضجيج والمواكب الجنائزية والتجار والبيع والشراء واختلاط الناس بالحيوانات والجنود الإسبان إبان تاريخ الحماية..) عن صورة السارد الكلية التي تجسدت في إحساسه الدائم بالعجز طوال مغامرته التي آلت إلى الفشل في النهاية.فهذه السمات يراد بها صياغة موقف سردي تخييلي إلى جانب وظيفتها التداولية.

لقد جسد السوق الفوقي تخييليا فضاء نفسيا كشف عن أهم بعد من أبعاد شخصية السارد وهو الخوف المنغرس في وجدانه منذ الطفولة:"تتلاعب بمخيلتي الهشة كمشة مبعثرة من الصور السقيمة الباردة"[9]؛صورة فقيه الكتاب بتجهمه وعصاه وترهيبه للصغار بحديثه عن أهوال الحشر، وصورة الموكب الجنائزي المخترق للساحة الضيقة في اتجاه باب المقابر، وصورة الجنود الإسبان المهرولين.هذا الخوف جعله طفلا عليلا مرتبطا بأمه:"تمسكت بأمي والتصقت بتلابيب حائكها"، ثم قوله:"رفعتني نحو صدرها"[10].

وبدل أن ينطلق خياله في فضاء الإبداع، انكفأ إلى التذكر. إن رغبة السارد في النفاذ إلى أسرار المكان أو التخيل الروائي المستوحى من ساحة السوق الفوقي يصطدمان بذكريات طفولة هشة مثخنة بالندوب ومسكونة بأحاسيس الرعب والهلع؛ ذكريات وضعته على طريق الإحباط المتربص به.

لقد بدت صورة ساحة السوق الفوقي أشبه بيوم الحشر؛ توحي كل مكوناتها بسمتي الرعب والمصير المحتوم، حيث يهيمن اللون الأحمر(التوابل-عيد الأضحى-خفان أحمران-طربوش أحمر-الحلوى الحمراء) والنعوت الدالة على الشدة(الخضرة القاتمة-المعاطف الغليظة-أحزمة سميكة- أحذية ثقيلة وشديدة السواد..).إنها صورة امتزج فيها الواقع بالتخييل؛فهل نستطيع القول إذن إن السمات التي أسندت إلى أمكنة الرواية تشكل-إلى جانب وظائفها التداولية- وظائف تخييلية أنيطت بها مهمة تصوير شخصية البطل والتسويغ السردي للنهاية التراجيدية التي آل إليها في نهاية مغامرته؟

لعل الإجابة عن هذا السؤال ستتبلور على نحو أوضح في سياق تحليل صور الأمكنة الأخرى.

2- مقهى الطرانكات: مستنقع الدخان والبذاءة وصورة الضعف.

إذا كانت السمات الواقعية لفضاء السوق الفوقي قد كشفت عن سمة الخوف المنغرسة في وجدان السارد منذ الطفولة، فإن السمات الواقعية(الصخب والدخان والبذاءة) لفضاء مقهى الطرانكات الذي رشحه السارد للتصوير في محطة أخرى من محطات مغامرته، ستكشف عن ضعفه واستسلامه والسخرية من الطريقة التي انتهجها في الإعداد لمهمته الثقافية والتاريخية والإنسانية.إن الكاتب يسخر من السارد الذي يلجأ إلى مقهى شعبي بحومة الطرانكات متربصا بحدث قصصي؛فينقلب الموقف إلى موجة من الهُزء والتهكم لم ينفع معها سوى الاستسلام للموقف الساخر الذي أجاد رواد المقهى المحششين استثماره للإيقاع به:"وقهقه الجميع..من المؤكد أن الصائح قد عرفني وعرف رتبتي الوظيفية ثم أفشى السر فانكشف خواء سوقي.بعد ذلك عادت أدوات الكيف إلى الظهور..ودمعت عيناي واختنقت..ومن المؤكد أني أمثل إليهم منغصا ثقيلا لم ينجح الصياح ولا الدخان في إزاحته فكان لزاما أن ينتقلوا إلى الخطوة القادمة حيث أمعنوا في سب بعضهم بعضا وفي تبادل الكلمات الجنسية..إلى أن أفلحوا في جعلي أتملل في مجلسي وأفلت الخيط القصصي من بين أصابعي.هكذا هبطت من سماء الإلهام إلى مستنقع الدخان فاستسلمت..وأيقنت أنهم القادرون وأنا الضعيف."[11]

لقد أظهر تصوير مقهى الطرانكات (ومعظم أمكنة هذه الرواية) إحدى وظائفها التخييلية التي تمثلت في الكشف عن مغالطات السارد والعوائق التي تفسر أزمته التي انتهت به إلى الفشل:

-تصوره الخاطئ عن أن الإبداع الروائي يطلب في الواقع الخارجي.

-رغبته في محاكاة نجيب محفوظ واستلهامه لأمكنته الروائية في تفاعله مع فضاء مقهى الطرانكات،حيث تحول الكاتب المصري من وسيط ملهم إلى عائق يبث في طريقه العجز.

- كشف المقهى عن أحد أبعاد شخصية السارد المتمثل في محافظته واشمئزازه من كل ما يخدش الحياء من مظاهر السلوك الاجتماعي الشاذ.وهذا البعد في شخصيته يتعارض مع أحد مطالب النثر السردي التي اكتشفها في مطلع شبابه عندما قرأ لأول مرة عملا روائيا سحره بصراحته وجرأته وتعريته.وكانت "القاهرة الجديدة" لنجيب محفوظ هي هذا العمل الذي فتح عينيه على دنيا السرد، عندما خرج من المدينة العتيقة والتحق بالمعهد الرسمي المنفتح على الثقافات والأجناس الأخرى.

إن وصف مقهى الطرانكات وتصويره الروائيين لا ينفصلان عن تصوير قصة إخفاقات السارد وبناء هزيمته على نحو سردي مقنع؛فالغرض الأساس من تصوير فضاء المقهى بسماته الواقعية هو الإسهام في استجلاء ورسم أبعاد شخصية السارد وخلق موقف سردي يفسر تطور الحبكة الروائية ويمهد لخاتمتها النهائية.فالمكان هنا ببذاءته ودخانه الكثيف شكَّل أول اختبار حقيقي لمغامرة السارد بالخروج إلى مواقع المدينة بحثا عن حبكة روائية.ولم تتأخر نتيجة الاختبار طويلا؛فقد جعله سلطان المكان يستسلم ويقر بضعفه.

3- المصدع: فضاء الصخب والبلل والعنف وصورة الهزيمة.

يفتتح الكاتب تصويره لخروج بطله إلى المصدع على النحو الآتي:"دقت طبول المساء معلنة اكتظاظ المصدع..في البداية اخترقت المصدع في جولة استطلاعية شاملة من أسفله..كنت أبحث عن موقع مناسب يتيح لي زاوية نظر حية.."[12].

يستعير الكاتب في تصويره لمعظم خرجات البطل إلى مواقع التصوير، ألفاظ حقلي الفروسية والمعارك.ولا ريب في أن هذا الأسلوب اختيار ينسجم مع طبيعة الحبكة الروائية العامة القائمة على تصوير سلسلة من المواجهات بين البطل والأمكنة العتيقة رغبة منه في السيطرة عليها وسجنها في قمقم روائي.فالرواية لا تفتأ تقدم البطل في أوضاع سردية قوامها المواجهات التي تنتهي إلى الإخفاق.وفي كل مواجهة يزداد القارئ تعرفا على شخصية البطل واقتناعا بشقائه ومحنته ونهايته الوشيكة.

إن المجازات الواردة في الصورة أعلاه تحيل مباشرة إلى ميدان الحرب ، مما يومئ إلى أن المواجهة هذه المرة لن تكون عادية، وأنها قد تتحول إلى معركة حقيقية ومواجهة حاسمة تضع نهاية لمشروع البطل وحلمه الروائي.وبالفعل فقد آلت مواجهته للمصدع إلى إخفاق ذريع، عندما تعرض للإهانة والضرب من أحد باعة السمك الذي ارتاب في مهمته:"..فما كان منه إلا أن مد رأسه نحوي حتى بدت عروق عنقه نافرة وزفر كالثعبان..ولم يكتف بالقذف وإنما دفعني بيده المبللة فوسخ جلبابي ورفع يده الأخرى استعدادا لصفعي..آنذاك انتشل الرجل عيارا حديديا وكاد يهوي به على رأسي..وفي لحظات الارتباك سقط مني القلم والدفتر فحاولت التقاطهما فاستغل الوحش وضعي المتخاذل وتهيأ لركلي.وعاينت الحذاء المطاطي الأسود مصوبا نحو وجهي فأغمضت عيني واتقيت رأسي بذراعي.."[13].

هذه نتيجة منطقية لتصرفات السارد غير المعقولة. ولقد اختار الكاتب أن تحدث هذه المواجهة العنيفة في المصدع باعتباره مكانا يتسم واقعيا بالعنف، وقد كان مهد لها في الموقف السردي الذي حدث في مقهى الطرانكات.

والحق أن تصوير هذا الحدث لم يرد به الكاتب سوى تصوير فضاء المصدع روائيا؛أي جعله جزء من الحبكة الروائية.ويفترض قارئ الرواية، بعد هذا الحدث الدرامي، أن هذا المكان سيضع حدا لخرجات البطل إلى الأماكن التي رشحها للتصوير، وسيكون آخر محطة في طريق مغامرته.غير أن الكاتب يخيب هذا التوقع عندما جعل بطله يواصل تحديه وينطلق في اتجاه آخر محطة من محطات مغامرته.

4-العيون:فضاء الانفتاح والبيع وصورة الانتهازية.

في فضاء العيون-المكان الرابع والأخير في المغامرة – يتفاقم اتهام البطل لذاته ويزداد شكه في مهمته حِدَّة.فبعد الخطر الذي أحدق به في المغامرة السابقة، وأصبح هدفا مباشرا للفتوات والأفاقين؛يبدو أنه دخل مغامرته الرابعة من دون أدواته( القلم والدفتر) مكتفيا بالشم والسمع والنظر:"تقدمت إلى الأمام أستطلع وأشم وأسمع" وقوله أيضا:"تركت موضعي بحثا عن الجديد أشم وأعاين وأسمع"[14].وتنسجم هذه المغامرة الصامتة مع فضاء العيون بألوانه وروائحه التي يحملها البدويون من المداشر القريبة من تطوان إلى هذا المكان الذي يتسم بالبيع؛فقد لاجظ السارد أن:"البائعات هنا لافتات للنظر" على الرغم من أن البيع سمة مشتركة بين جميع الأمكنة:"..البيع..البيع..كل واحد يبيع..كل شيء صالح للبيع..."[15] .

لقد كشف فضاء العيون ببساطته وانفتاحه وقربه من الحد الغربي للمدينة[16] عن أن البيع بشتى مظاهره هو السمة الواقعية التي استثمرها الكاتب في بناء الحبكة السردية ورسم أبعاد شخصية البطل وتفسير تحديه واستمراره في المغامرة على الرغم من طبيعته المتخوفة والأخطار التي هددته في المغامرة السابقة؛فقد كشف هذا الفضاء أن السارد بإخفاقاته المتكررة اضطر هو أيضا أن ينخرط في لعبة البيع وأن يشتري الحكايات بعدما أعياه خلقها؛فقد لجأ إلى إحدى المتسولات( قد يكون التسول شكلا آخر من أشكال البيع) منتهزا فرصة حاجتها إليه:" في تلك اللحظة الدقيقة لزم أن أكون انتهازيا"[17] وشرع في استدراجها لكي تحكي قصتها لعله يفلح في تجاوز العقم القصصي الذي عانى منه حتى الآن.

هذا هو المصير الذي انتهت إليه مغامرة البطل للسيطرة القصصية على أمكنة المدينة العتيقة؛ أن يتحول إلى انتهازي يبيع مكانته الاجتماعية مقابل الحصول على شيء وهمي عز حصوله عليه من قبل.

على هذا النحو أسهم فضاء العيون بسماته الواقعية في بناء حبكة الرواية ونسج قصة الساحلي وتشكيل صورته الشخصية الروائية الكلية، على نحو ما أسهم –إلى جانب الأمكنة الأخرى- في رسم صورة تطوان وحكايتها.

***

لقد أراد محمد أنقار أن يكتب رواية المكان وأن يلفت أنظار القراء إلى طبيعة هذا الصنف الروائي من خلال تصوير محنة بطله أحمد الساحلي الذي أخفق في إنجاز رواية عن مدينته تطوان بالمعايير الجمالية الروائية المستوحاة من أعمال نجيب محفوظ، باعتبارها نموذجا ناجحا لرواية المكان التي تنبني أساسا على قصة متماسكة وجذابة، بدل الإغراق في اللوحات الشاعرية والصور الرمزية.

إن صور الأمكنة في رواية "المصري" صور روائية تخضع بلاغتها-في المقام الأول- لمعايير الفن الروائي.ولعلها أن تكون إحدى روايات المكان العربية المعاصرة التي صاغها صاحبها مستلهما سمات بلاغة التصوير الواقعي دون أن يتنكب أساليب السرد الحديثة.

وقد سعيت في هذه القراءة إلى أن أحلل صور الأمكنة في سياق هذه البلاغة التي صاغتها الرواية في حبكتها السردية.وهذا لا يعني أن المكان في هذا العمل الروائي لا يقبل قراءات أخرى قد تظهر فيه جوانب خفية مهمة.لكن حسبنا أن نقول هنا إن الكاتب ولد في هذه المدينة وتفاعل مع سماتها وأدمن التأمل في فضائها وعايش تحولاتها التاريخية والاجتماعية، فأراد أن يخلد هذا الرصيد الوجداني في عمل روائي ممتع ينبغي أن نقرأه أولا في سياقه الأدبي.


نفسه.ص.53.[1]

نفسه.ص.48.[2]

نفسه.ص.49.[3]

نفسه.ص.64.[4]

نفسه.ص.52.[5]

نفسه. ص. 52.[6]

نفسه. ص. 51-64-93-94-107-135[7]

المقصود بهذا القارئ هو القارئ الذي يقرأ الرواية باعتبارها خطابا تخييليا نوعيا له بلاغته المخصوصة.[8]

الرواية.ص.58.[9]

نفسه.ص.59و60.[10]

نفسه. 97-100.[11]

نفسه. ص. 126-127.[12]

نفسه. ص. 182-129.[13]

نفسه. ص. 155و159.[14]

نفسه.ص.155.[15]

نفسه. ص. 154.[16]

نفسه.ص.156.[17]

دراسات في السرد الحديث: السرد وبلاغة التعجيب في رواية خالد أقلعي "أطياف البيت القديم(درب الصوردو)"


أثبت خالد أقلعي في عمله السردي الجديد "أطياف البيت القديم(درب الصوردو)"[1] أنه يمتلك قدرة كبيرة على التلعب بجماليات الحكي، مؤكدا بذلك الثقة التي وضعها فيه النقاد الذين منحوه منذ سنوات جائزة اتحاد كتاب المغرب للشباب عن مجموعته القصصية:"دوائر مغلقة".

بين مجموعته القصصية تلك وعمله السردي الجديد مسافة زمنية كافية لكي يراكم الكاتب الناشئ وقتئذ خبرة في الكتابة السردية ويمتلك حيلها وأساليبها الساحرة.ولأجل ذلك كانت "أطياف" –من هذه الجهة-عملا سرديا فاتنا وممتعا. وإني أرى أن الأدب المغربي المعاصر ربح كاتبا موهوبا يتقن أسلوب السرد ويتحكم في أفانينه وينوع طرائقه على نحو يمكنه من الاستحواذ على القارئ وحبس أنفاسه.

غير أن هذه السمة ليست معيارا حاسما في صناعة عمل روائي.

لقد كاد خالد أقلعي في هذا العمل يختزل الجنس الروائي في الحكي الآسر؛ فالنص من بدايته إلى نهايته سلسلة من الحكايات الفاجعة لأفراد ينتمون إلى أسرة السارد أو إلى أفراد لهم صلة بها.والحق أن الكاتب أظهر ولعا شديدا بالحكي، ولعله كان يستجيب لحاجيات المتلقي المغربي الذي حُرِم لذة الاستمتاع بهذا المنزع الأسلوبي في كثير من نصوص السرد المغربي المعاصر.غير أن هذا المنزع الضروري لا يمكن أن يقوم بديلا عن أهم مكون في أي عمل روائي وهو الحبكة أو البناء الدرامي للمادة الحكائية.

إن "أطياف البيت القديم" ليست نصا روائيا بالمفهوم النوعي المتعارف عليه، على الرغم من أن الكاتب وضع على غلاف كتابه لفظ "رواية" موجها قراءه إلى التعامل مع نصه السردي في سياق مكونات هذا الجنس الأدبي وسماته.غير أن هذا التوجيه لم يفلح في ترسيخ المبدأ الأدبي الذي شاء الكاتب التواصل به مع القارئ الذي يطوي آخر صفحة في الكتاب دون أن يحصل لديه اقتناع بأن الكتاب الذي قرأه رواية.

لم يفلح الكاتب في تحويل الحكايات الآسرة إلى وحدة سردية روائية كلية.

ولا ريب أنه لم يكن غافلا عن هذا الأمر الضروري في أي عمل روائي، غير أنه ربما راهن على نمط مختلف من الوحدة أو الحبكة،نمط كشف عنه على لسان السارد في قوله:"هل هو قدر أهلي أن تتوزعهم الدنيا بين قاتل وعليل ومتشرد وعاجز ومجنون؟ أهو دمنا الحار الفوار المتمرد يأبى النهايات الرّطب الرتيبة؟ أليس في حيوات أعمامي وعماتي وتفرد مصائرهم ما يضفي على ذكراهم سمات تراجيدية تحفز الكتابة اللاهثة وتبرر انهمارها السردي؟"(ص.96 )

واضح أن الكاتب راهن في هذا العمل على نمط من البناء يقوم على وحدة المصير والمكان؛فالشخصيات التي احتضنها البيت القديم (العلية وغرفة الصنعة والصويلة وغرفة الموت والسطوح والمدخل) تؤول إلى مصير تراجيدي يسوغ من منظور السارد رواية حكاياتها، وكأن حوافز الحكي تنبني على التعجيب والغرابة؛حيث ينساق السارد إلى رواية حكايات عجيبة ومذهلة.غير أن غرابة هذه الوقائع لا تعني أنها ذات طبيعة خارقة أو مفارقة للواقع، بقدر ما تعني أنها غير مألوفة الحدوث أو أن درجة احتمال وقوعها ضعيف بالنسبة إلى شخصيات تنتمي جميعها إلى عائلة واحدة أو احتواها سقف واحد.

هكذا يتبين أن الكاتب راهن على بلاغة التعجيب بدل بلاغة البناء السردي الدرامي الممتد والمتنامي.

يروي السارد حكايات تراجيدية لأفراد عائلته( الجد والجدة والأعمام والعمات والخالة) أو لأفراد آخرين(فتيات الصنعة) ينتمون على نحو أو آخر إلى البيت القديم حيث نشأ السارد وعايش السقوط والانكسارات التي توالت بشكل متواتر دفع السارد إلى أن يتساءل عن السر وراء ذلك؟

والكاتب(السارد) يحكي عن بعض الشخصيات المذكورة ويترك أخرى أسماء بلا حكايات،لأنه مفتون بالمصائر العجيبة لشخصياته، مادام حدد وظيفته في تذكُّر السيرة الغريبة لعائلته ورواية حكايات أفرادها كما وقعت بالفعل لا كما ينبغي أن تقع.فالرهان السردي الأكبر قام على تحويل الوقائع إلى حكايات مؤثرة وجذابة تروى بصيغ متنوعة في الأسلوب والمنظور، وليس على بناء حبكة روائية تصهر هذه الحكايات في خط درامي أو حكاية كبرى تسري في أعماقها الداخلية وتنمو مع تراكمها.فالسارد شخصية من الشخصيات المشاركة في حكايات البيت القديم يروي ما شاهده أو وقع له أو يشرك الآخرين في الرواية. ولكن معظم هذه المرويات أو المحكيات يتلقاها القارئ ويستمتع بها في ذاتها دون أن يكون لها أي وظيفة في بناء الحبكة الكلية(؟) أو رسم شخصية السارد الطفل الذي ظل على امتداد صفحات العمل السردي ثابتا وغائبا لا يظهر إلا في القليل النادر ليذكرنا بوجوده باعتباره شخصية روائية لا تنسحب من الفضاء السردي بانتهاء حكاياتها كما حدث لكل شخصيات العمل التي تحولت إلى مجرد حكايات.

قليلة تلك المواقف السردية التي ظهر فيها السارد شخصية تتحرك في مسرح الأحداث، أو ظهر للقارئ فيها أنه شخصية روائية وليس مجرد عين تراقب وتسرد.

والحق أن المحنة كانت شديدة على الكاتب الذي جمع كل هذه الحكايات المؤثرة وحار كيف ينظمها في حبكة درامية متطورة؛ فكان لابد أن يوحي السارد إلى القارئ أحيانا أن ما يحكيه لهم ذو صلة بشخصيته حتى يضمن لعمله قدرا من الانسجام الذي يقتضيه العمل الروائي؛ فلا ينفرط عقده بسبب انهمار الحكايات على خطاب العمل:"هل تفسر هذه الأحداث ما أصبحت أعانيه، مع مرور الأيام، من عجز في مواجهة النساء ومعاشرتهن؟ ألم يؤثر هذا الحظر الحازم على حياتي الخاصة تأثيرا بالغا، فعزفت عن الزواج وارتضيت لنفسي صومعة أتردد بين حجراتها الرطبة الموحشة معانقا فرشاتي وأمراضي وهواجس سنواتي الخمسين."(ص.63)

ليس السارد هنا شخصية روائية تتشكل أمام أعيننا في خضم الوقائع والأحاسيس المتنامية والمتوترة، ولكنه شخص يوجد خارج الفضاء السردي للعمل؛ والكاتب يحاول أن يوحي إلى القارئ بإشارته السابقة أن كل ما يحكيه يخدم شخصية السارد.لكن القارئ يدرك أن السارد لم يرق، لا في طفولته ولا في حاضره، إلى أن يشكل شخصية روائية.

يقدم نص "أطياف" أكثر من دليل على أنه تنكب سبيل الرواية.

-يزخر النص بإشارات إلى فعل "التذكر" الذي يضطلع به السارد معتمدا مصادر متنوعة.والتذكر فعل يحيل إلى خطاب السيرة أكثر مما يحيل إلى الخطاب الروائي التخييلي.

- تهيمن على النص الوقائع بدل صور الشخصيات؛فقد اعتمد النص خطة تراكم الحكايات المأساوية التي أولت العناية إلى الوقائع بدل التصوير الدرامي للشخصيات.

- لم تحظ الأمكنة في النص بتصوير روائي وأدبي يرقى بها إلى أداء وظائف درامية ومجازية تعادل حضورها الكثيف في وجدان المتلقي الذي يشاطر الكاتب تجربته المختزنة عن معمار البيت التقليدي بأمكنته الشاعرية المنغرسة في الوجدان.لم يشكِّل المكان هنا عاملا لتوليد السرد بقدر ما شكَّل إطارا خارجيا انطلق منه السارد محلقا في حكاياته التعجيبية التي غالبا ما كانت تجري وقائعها بعيدة عن أمكنة البيت القديم.

-قوام بلاغة النص جلب الحكايات الفاجعة أو المأساوية ليوقع التعجيب في نفوس القراء؛ فقد سيطرت هذه الوظيفة على حساب الوظيفة الروائية التي تقتضي أن يقوم التخييل على حبكة روائية وشخصيات نامية؛ أي إن قوام بلاغة السرد الروائي هو صناعة الحبكات.

***

لقد انطلقت في قراءتي من مبدأ النوع الذي اختاره الكاتب إطارا لعمله؛أي إنني لم أفعل سوى ما أراده الكاتب من قرائه؛أن يقرءوا نصه باعتباره رواية.غير أن القراءة الفعلية لهذا العمل في ضوء المبدأ المحدد أعلاه أثبتت أن الكاتب استسلم لسحر الحكي وسلطانه الآسر غير عابئ بمكونات الرواية.

لكن خارج حدود هذا المعيار النقدي لا يستطيع أحد أن يسلب هذا العمل قدرته الساحرة على الحكي.وكم تمنيت لو أن هذا الكاتب الموهوب بذل مجهودا أكبر على مستوى الحبكة ومراجعة اللغة وتنقيتها من أخطاء معجمية ونحوية كثيرة.



[1]