الاثنين، 3 نوفمبر 2008

قراءات في كتب د. محمد مشبال: في تأويل بلاغة السرد قراءة في كتاب"الهوى المصري في المخيلة المغربية" للدكتور محمد مشبال

صدر للدكتور محمد مشبال كتاب جديد بعنوان"الهوى المصري في المخيلة المغربية" قراءات في السرد المغربي الحديث[1]، عن منشورات بلاغات، ووضع له الدكتور سيد البحراوي مقدمة بعنوان "الهوى هوانا"، أشار فيها إلى أن المنهج النقدي في هذا الكتاب لا يقتصرعلى تحليل الأعمال الأدبية في جوانبها الفنية وإنما يحرص من خلال هذا التحليل على إبراز"قضية" ثقافية وتاريخية هي الهوى المصري باعتبارها عنصرا من عناصر تكوين الشخصية المغربية الحديثة.

يتوزع الكتاب إلى مقدمتين وتمهيد و ثلاثة فصول:

-التمهيد: "الحلم المشرقي" وفي يتذكر المؤلف هواه المصري عندما رحل للدراسة في القاهرة في أواسط الثمانينات.

-الفصل الأول: "الهوى المصري والمغامرة السياسية" من خلال كتاب "القاهرة تبوح بأسرارها" لعبدالكريم غلاب.

- الفصل الثاني:"الهوى المصري والمغامرة الجنسية" من خلال محكيات "مثل صيف لن يتكرر" لمحمد برادة.

- الفصل الثالث: "الهوى المصري والمغامرة الروائية" من خلال رواية "المصري" لمحمد أنقار.

يتناول الكتاب "صورة" المغربي المفتون بالهوى المصري في ثلاثة أعمال أدبية كتبها مغاربة من أجيال مختلفة ومن زوايا مختلفة حسب طبيعة وتوجه كل كاتب أو راو أو بطل في هذه الأعمال؛ وكلها تعكس "الهوى المصري" الذي استولى على الوجدان المغربي تاريخيا، كما تعكس ذلك الالتحام المتواصل بين المغرب ومصروذلك التواصل القائم على الفهم والوعي والإبداع. ويرى الباحث أن الهوى المصري يشكل جزءا من كيان المغربي الثقافي ومخيلته ووجدانه، ويدعو المثقف المغربي أن يتدبر مختلف صيغ التواصل الكائنة والممكنة بين الثقافتين المغربية والمصرية، بعيدا عن أخلاقيات الإقصاء والتعالي واللامبالاة.

أ." القاهرة تبوح بأسرارها" وهيمنة الدلالة الخطابية:

يمثل كتاب عبدالكريم غلاب"القاهرة تبوح بأسرارها" صورة للعلاقة التي ربطت الإنسان المغربي بمصر والثقافة المصرية في فترة الأربعينات. ويشير الباحث إلى أن كتاب عبدالكريم غلاب لا يحمل أي إشارة إلى نوعه الأدبي غير أنه لاحظ أن هناك تطابقا بين المؤلف والسارد أو الشخصية، الأمر الذي يدعو إلى تصنيفه ضمن السيرة الذاتية، واختلاطه بأجناس سردية ونثرية أخرى من قبيل أدب الرحلة وجنس المذكرات والتأريخ والمقالة السياسية.

ويحكي عبدالكريم غلاب في هذا الكتاب جزءا من سيرته الذاتية قضاه في مدينة القاهرة في منتصف الثلاثينات من القرن العشرين، حيث سافر إليها سنة 1937 لأجل استكمال دراسته بجامعتها، غير أن الأجواء السياسية أغوته، فتحول من مجرد طالب منتظم إلى سياسي مثقف يناضل لأجل استقلال بلاده والبلدان العربية التي كانت تطالب المستعمر بالاستقلال، وتكافح لنيل الحرية. [2]

ويعد الكاتب من أبرز الشخصيات السياسية في حزب الاستقلال ؛ فهوأول رئيس لاتحاد كتاب المغرب والمدير المسؤول عن جريدة العلم وأحد أعضاء أكاديمية المملكة المغربية ورائد من رواد الرواية المغربية وأحد المثقفين السياسيين في المغرب.[3]

لقد اعتمد غلاب وهو يحكي عن حياته في القاهرة على الذاكرة والوجدان والمخيلة، انطلاقا من الحاضر."فبينه وبين الفترة المستعادة والحياة المروية مسافة زمنية لا يجوز أن تكون أحوال السارد قد ظلت على صورتها التي تشكلت بها في الزمن الماضي...ولعل من خصائص جنس السيرة الذاتية خضوعها للتحريف الناجم عن أن كاتبها لا يستطيع إعادة خلق واقع لم يعد قائما؛ فهناك إلى جانب النسيان، الانتقاء والرقابة الذاتية والحياء والغرور والتدخل في إعادة تنظيم الوقائع وغيرها من دواعي التحريف. كل هذا يثبت أن كاتب السيرة الذاتية يتعامل مع واقع مليء بالثقوب والفراغات والبياضات التي لا يكف عن ملئها".[4]

ويشير الباحث إلى أن استعادة عبدالكريم غلاب لفضاء القاهرة مرتبط برؤيته السياسية؛ فمصر في عمل الكاتب السردي فضاء سياسي أكثر منه فضاءا إنسانيا أو ثقافيا.[5] فمصر بالنسبة إلى السارد، وكما تخيلها قبل سفره إليها، كانت فضاء للحرية والفن والأدب والفكر.

كما يشيرإلى أن فكرة السّفر إلى القاهرة أصبحت حلما يراود كل فتى مغربي افتتن بالثقافة المصرية؛ إنه سفر إلى المدينة الحديثة، حيث الشعر والقصة والغناء والسينما والجامعة.[6]

إن الهوى المصري الذي سكن قلب السارد وعقله ، هو حلم ببلد متحرر من الاستعماروالتقاليد البالية، بلد أصيل وعصري تتمثل أصالته في التشبث بالهوية العربية الإسلامية، وتتمثل معاصرته في الأخذ بالنظم السياسية الديموقراطية وبقوانين حرية المرأة وبنظم تعليمية حديثة.

ويرى الباحث أن الساردلا يملك سوى أن يصطنع لهذا البلد صورة مثالية تعبر أولا عن افتتان جمالي وفكري بهذه الثقافة وبأن يصبح يوما ما أحد أقطابها، وتعبر ثانيا عن رغبة دفينة في الهروب إلى فضاء فسيح تسوده قيم الحداثة المفتقدة في الفضاء الضيق الذي يحاصره في مدينة فاس مسقط رأسه. لقد مثلت مصر في هذا السياق صورة للفضاء المثالي البديل عن الفضاء الحقيقي الماثل.[7]

لقد مكّن فضاء مصر للسارد أن يجالس المثقفين المصريين من شعراء وكتاب ومغنين، كما مكنته إقامته الطويلة في القاهرة من مشاهدة المسرحيات في مسارحها والتردد على المكتبات الحافلة بالمصادر والمراجع وعلى دار الأوبرا والجامعة؛ كل هذه العوامل جعلت الهوى المصري يتغلغل في قلبه حتى أصبح حبا مثاليا؛ "هو حب للقيم الجمالية سواء تلك التي تتجلى في الطبيعة، أو تلك التي صاغها صناع الفن والأدب في أعمالهم الساحرة".[8]

وعلى الجملة، فإن السارد يحكي عن سيرته الذاتية في تلك الفترة التي قضاها بمصرمبرزا فضلها عليه حيث تمكن في فضائها من النجاح في المجال الثقافي والسياسي ومواصلة النضال في مطالبة المستعمر بتحرير المغرب وسائر الدول العربية والإفريقية التي كانت تحت سيطرته، والاتصال بجميع الهيئات والجمعيات والصحف العربية والإسلامية، وكتابة مذكرات المطالبة باستقلال المغرب والدول العربية والإفريقية إلى سفارات الدول العظمى ومكتب فرنسا والحكومة المصرية.

وانطلاقا من عنوان الكتاب "القاهرة تبوح بأسرارها"، يتساءل الباحث عن الأسرار التي باحت بها القاهرة في هذا العمل؟ إنها تعني تاريخ الحركة الوطنية في الخارج مما لا يعرفه الناس؛ فالأسرار- إذن- هي تلك الأحداث السياسية التي عايشها السارد أو شارك فيها طوال إقامته بمصر، وليست تلك الأسرار الخاصة بكاتب السيرة. إنه لم يبح بأية أسرارخاصة بحياته خلال إقامته بالقاهرة، ومن ثم نرى أن غلاب قد خيّب أفق انتظار القارئ الذي كان يتوق إلى تعرف أسراره في حياة غيره لأنه لم يجعله يعيش فيها هواه المصري، ولم تستجب لحاجاته ورغباته في تجسيد هذا الهوى في صور تعكس عشق السارد لفضاء القاهرة.

ويرى الباحث أن كتاب عبدالكريم غلاب فيه ملامح جنس المذكرات على الرغم من كونه يتناول جزءا من السيرة الذاتية للكاتب، وذلك لأن الأحداث التاريخية العامة تهيمن على الأحداث الخاصة هيمنة تكاد تكون مطلقة. وإذا كانت السيرة الذاتية تركزعلى الحياة الخاصة لصاحبها، فإن المذكرات تركز على الأحداث الخارجية مما يدل على أن هذا العمل أقرب إلى جنس المذكرات منه إلى جنس السيرة الذاتية.[9]

كما يشير الكاتب إلى هيمنة الوظيفة الإخبارية والوظيفة الخطابية على الوظيفة الأدبية لأن الكاتب كان حريصا على إعلام قارئه وإفادته وتربيته .[10]

وخلاصة القول ، إن الكاتب انتقل من تجربة تصوير الهوى والذات إلى سرد الوقائع والأحداث السياسية والتاريخية التي كانت القاهرة مسرحا لها والانغماس في النضال السياسي .

ب." مثل صيف لن يتكرر" وصورة الذات القوية :

وينتقل الباحث إلى تحليل عمل محمد برادة "مثل صيف لن يتكرر" ، ويرى في هذا العمل أن السيرة الذاتية تمتزج بالتخييل الروائي عبر مراحل مختلفة تمتد من يوليوز 1955 إلى فبراير 1998، أي منذ أن حلّ بمصر لأجل الدراسة إلى تلك الزيارات الثقافية المتكررة في مراحل متفاوتة في الزمن، مما يعكس ذلك الهوى المصري الذي تجذرفي كيانه منذ زمن بعيد.

ويشير الباحث إلى أن الكاتب قد سخّر في صياغة هذا العمل كل ما يدّخره من رصيد الكتابة القصصية والروائية والنقدية والسياسية. ولعل الرغبة االروائية والتخييلية تعلن عن نفسها في هذا العمل بشكل صريح؛ فالمؤشرات الدالة على أنه عمل سردي تبرز من خلال غلاف الكتاب الذي يشير إلى النوع الأدبي الذي ينتمي إليه هذا العمل"محكيات"، أو العنوان الفرعي الذي يصدر به هذه المحكيات: "ثقوب لا تكف عن الامتلاء"، أو السرد بضمير الغائب وباسم مستعار(حمّاد) ثم الانتقال إلى السرد بضمير المتكلم في مرحلة أخرى من مراحل سيرة الكاتب بالقاهرة.[11]

ويرى الباحث أن "محكيات" محمد برادة تصورتأثير الهوى المصري في وجدان فتى مغربي وعقله، كما تصور تاريخ هذا الهوى في مخيلة المغربي في أطوار مختلفة من حياة السارد ووجدانه وعقله في ثلاثة أطوار زمنية متداخلة: طور الحلم بالسفر، وطور الإقامة والاندماج والذوبان في فضاء القاهرة، وطور العودة المتكررة إلى مرابع الصبا وأرض الأحلام.[12]

ولعل السارد في هذه المحكيات يهدف إلى تقديم صورة نموذجية عن نفسه وعن حياته في بلد كان معظم المغاربة يحلمون بالسفر إليه في حقبة مهمة من تاريخ تشكل الشخصية المغربيةالحديثة.

لقد صور عمل محمد برادة شخصية"حمّاد"، تلك الشخصية التي تمتلك سمات خاصة كالشجاعة، والجرأة، والحرية، والمغامرة. إن "حمّاد" يتسم بسمات التحرر الخلقي والاجتماعي. فقد انغمس في اللذات الحسية واتسمت علاقته بالمرأة بالحسية والدونجوانية، فربط علاقات عديدة مع نساء اللذة العابرة، وارتبط مع نساء أخريات بعلائق ملتبسة. جمع "حمّاد" بين الجد والهزل منذ نعومة أظفاره، وكان معاقرا للخمر ومدمنا القراءة في الوقت نفسه. صال وجال في القاهرة ، فأصبح فارسا حقيقيا، واستطاع إثبات ذاته باعتباره طالبا جامعيا واعدا، ثم أستاذا فيما بعد، حين أسهم في تكوين أجيال من الطلاب المغاربة الذين شكلوا النواة الأولى للحركة الثقافية في المغرب إبان السبعينات والثمانينات والتسعينات. وأصبح ناقدا أدبيا يمثل المغرب في كل المؤتمرات العربية والدولية.[13]

لقد استوحى "حمّاد" مغامراته الجنسية من أبطال السينما المصرية التي أدمن مشاهدتها منذ طفولته في فاس، فتعددت مغامراته مع النساء كلقائه ب"فوزية" وكأنه لقاء يجسد رغبة قابعة في الوجدان.[14] ولم تنقطع مغامراته النسائية حتى بعد أن أصبح أستاذا جامعيا ومثقفا عربيا بارزا. إنها تجارب و"علاقات جنسية بررها الكاتب بخبرته السابقة الممعنة في الحسية مع المرأة وبانجذابه إلى فضاءات القاهرة السرية" [15]

إن لجوء السارد إلى علاقاته الغرامية مع النساء دفع الباحث إلى التساؤل حول أهمية سرد علاقات حمّاد العابرة مع نساء اللذة، والتساؤل عن الفائدة التي يجنيها الكاتب حين يلجأ إلى التصوير الجنسي الفاضح لامرأة مازوشية، أوحين يحكي عن مكالمة تليفونية لتلميذة في سن الخامسة عشرة تطلب من حمّاد ممارسة الجنس في إحدى زياراته المتأخرة لمصر. والإجابة عن هذه التساؤلات يقدمها الكاتب نفسه باعتباره كاتبا حداثيا ينتسب إلى فئة الكتاب العرب الذين وظفوا الجنس في نصوصهم الإبداعية وأولوه ما يستحقه من أهمية. ويتجلى غرضه من ذلك أن يكشف عن المستور، وينتقد مظاهر التظاهر بالفضيلة المزيفة. وعلى هذا النحو، يكون من وظيفة الإبداع الأدبي الكشف عما يجري في الخفاء ومن وراء حجاب أوكما عبر عنه الباحث"تحت السطح" مما لا يعترف به الخطاب الثقافي الرسمي.[16]

لقد مضى الكاتب في نسج فضاء للقاهرة مغاير لتلك الفضاءات التي صورتها السينما المصرية أو روايات إحسان عبدالقدوس أو يوسف السباعي، فعمد إلى تصوير فضاء القاهرة السرية أو مجاهل القاهرة الأخرى التي لا نكتشفها إلا في النصوص الإبداعية.[17]

ويتساءل الباحث في نهاية التحليل: هل استطاع السارد أن يصوّر للقارئ سيرة شخص سافر إلى القاهرة من أجل الدراسة؟ هل تمكن من رسم صورة عن الحياة العلمية والثقافية التي ربطته بأساتذة وكتاب مرموقين في مصر؟ هل تمكن من تصوير الأشخاص العاديين في المجتمع المصري الذين من المفترض أن يكون قد اختلط بهم؟

يجيب الباحث قائلا إن ما سرده الكاتب من صور القاهرة لا يستجيب بشكل واسع لتوقعات قارئ(مفترض) مصاب بالهوى المصري.

وفي النهاية ينتهي الباحث إلى أن هذا العمل تجاذبته أغراض متعددة: كالغرض الأدبي والإنساني الذي تجلى في كثير من الصور السردية العالية الإحساس، وتسويق هذا العمل واستهلاكه بحكم أن كثيرا من القراء يقبلون على قراءة السير الذاتية لما فيها من سرد لمغامرات الكاتب الحقيقية، وحرصه الشديد على تقديم مادة مغرية، باعتباره أحد المثقفين المغاربة الأكثر شهرة في العالم العربي.[18]

ج. "المصري" واالدلالة التخييلية:

إن رواية "المصري" لمحمد أنقار ، تسرد قصة أحمد السّاحلي الذي يطمح إلى أن يخلّد مدينته تطوان المغربية من خلال كتابة رواية، مثلما خلّد نجيب محفوظ مدينة القاهرة؛ فأحمد الساحلي شخص عليل، أشرف على التقاعد بعد اشتغاله بالتعليم مدة طويلة. دفعته رغبة قديمة إلى كتابة رواية عن مدينته قبل انصرام الأسبوع الأول من بداية تقاعده، مخافة أن يموت بعد أسبوع من إحالته على المعاش. ومصدر مخاوفه صديقه عبدالكريم الصويري الذي وافته المنية بعد مضي أسبوع على تقاعده، وهو يخشى أن يلقى المصير نفسه الذي لقيه صديقه، فاستبد به الخوف من الموت، وأخذ يتسابق مع الزمن لأجل كتابة روايته، وتحقيق مشروعه الروائي ، باذلا كل ما في وسعه لتحقيق حلمه بكتابة رواية شبيهة بإحدى الروايات التي كتبها نجيب محفوظ. لكنه سيشعر بالعجز عن تنفيذ مشروعه الروائي، ولم يبق له في النهاية سوى الإقرار بالهزيمة وانتظار الموت.

تبرز هذه الرواية كيف أصبح الهوى المصري مكونا سرديا يسهم في بلاغة النص وتكوين دلالته. ولقد تجسد هذا الهوى في حب الساحلي لتلك الشخصيات المصرية التي تجسد بالنسبة إليه القوة والحرية والحب وكل القيم المثالية التي تشبع حاجاته الروحية كنجيب محفوظ وعايدة بطلة الثلاثية وأستاذ علم النفس المصري و سيدة الطرب العربي أم كلثوم.

ويشير الباحث إلى أن رواية محمد أنقارتصور الحلم المشرقي من منظور شخصية تطوانية مخصوصة؛ فالسفر إلى مصر كان حلما ثقافيا وأداة لجلب المجد في الوقت نفسه. كما تمثل قصة نشوء الحلم المشرقي وبداية الهوى المصري عند فئة عريضة من المغاربة الذين تفاعلوا مع الإبداع الأدبي والفني الوافد من الشرق.

دلالة العنوان:الهوية المنفتحة

يرى الباحث أنه يمكن النظر إلى عنوان الرواية "المصري" باعتباره دلالة على الهويَة المنفتحة؛ فالرواية تعكس الهيام بنجيب محفوظ وبالثقافة المصرية، وعنوانها سمة دالة على توق الساحلي إلى فضاء آخر وأناس آخرين مما دفعه إلى التفكير في كتابة رواية مستوحاة من الفضاء المصري؛ فنشوء هذه الفكرة حدثت عن طريق التواصل الثقافي الذهني وتعرف أحمد الساحلي فضاء القاهرة بواسطة التخييل السردي الروائي. إنه لا يستطيع كتابة رواية إلا بالاعتماد على مخزونه من النصوص الروائية التي ترسبت في ذهنه بواسطة إدمانه قراءة الروايات وخصوصا روايات نجيب محفوظ. إن الرواية باختصار هي الجنس السردي الذي يعبر فيه الكاتب عن تجربة الاكتشاف والانفتاح والتفاعل والتواصل مع فضاء آخر وثقافة مغايرة.[19]

تأثير نجيب محفوظ في الوجدان المغربي

إن أحمد الساحلي معجب بنجيب محفوظ إعجابا شديدا ، مفتتن به إلى درجة الهيام. لقد قرأ كل كتبه، وحفظ تفاصيل رواياته؛ عناوينها وأسماء أبطالها ومواقع حوادثها، كما كان يتتبع حياته الشخصية كتدخينه الشيشة، ونوع أكلته المفضلة.

ولقد أوصلته الفتنة بنجيب محفوظ أن اقترف حماقات كشفت في النهاية مدى التأثير الذي أحدثه هذا الروائي المصري في الوجدان المغربي؛ فقد بلغ به الهيام بعايدة بطلة الثلاثية أن شكاه لصديقه عبدالكريم وقرأ له رسالته المتأججة عشقا وعذابا.

كان السارد يرى في نجيب محفوظ، باعتباره ظاهرة أدبية وثقافية تستحق التأمل، لغزا بشريا محيرا، ويتعجب من غزارة إنتاجه القصصي والروائي ومن قدرته الهائلة على سبر أغوار شخصياته المتباينة في انتمائها الاجتماعي والثقافي، ويتساءل عن السر في النجاح الباهر الذي حققته رواياته.

وإذا نظرنا إلى رواية "المصري" باعتبارها خطابا واصفا للإبداع الروائي، لمسنا شغف أحمد الساحلي بنجيب محفوظ والرواية المصرية ولمسنا من خلاله شغف جيل كامل من المثقفين المغاربة بإبداع هذا الروائي العبقري الذي أصبح نموذجا يحتذى في الكتابة الروائية. غير أنه رغم ذلك، أخفق في كتابة رواية. إن هذا الإخفاق لايجسده أحمد الساحلي وحده بل يجسده كل الروائيين المغاربة الذين عجزوا عن كتابة رواية تحقق القيمة الأدبية التي حققها نجيب محفوظ. "إن هذا الإخفاق يدعو القارئ للتفكير في الأسباب التي جعلت الروائي المغربي بشكل عام لا يترجم ارتباطه الوجداني بالثقافة المصرية وحبه لعالم روايات نجيب محفوظ إلى إبداع روائي مغربي يحمل سمات هذا العالم الفاتن. لماذا انحصر تفاعل المخيلة المغربية بروايات نجيب محفوظ في الوجدان والتعلق العاطفي والدراسة النقدية دون الإبداع الفعلي؟"[20]

الإخفاق

ولعل الإخفاق في الكتابة يتجسد في الفصل الأخير من رواية المصري المعنون ب"الغروب" الذي يعني الفشل في تحدي الموت، ويأس السارد من الحياة، والتأهب للموت. وذلك عبر مؤشرات دالة تشير إلى ذلك، كتصوير الكاتب لأحمد الساحلي وهو يلبس البياض كأنه لفّ في كفن أو التفاتته إلى ضريح سيدي "المنظري" باني مدينة تطوان أومخاطبته للضريح بقوله "هاهي أمانتك الوديعة أردها إليك... لست في مستوى الأمانة... أنت بنيت المدينة وكان لك مجد البناء وأنا عجزت عن وصف ما بنيت... وأقسم بالله العظيم أني كنت مخلصا في نيتي وتجوالي وسعيي... وقبل هذا وذاك كنت مخلصا في حبي... أرجو المعذرة فأنا لست أول ولا آخر الفاشلين..."[21]

ويتمثل صراع الساحلي التخييلي في كونه يمتلك معلومات عن مدينته الى درجة التدفق، غير أنه لا يمتلك القدرة على صنع صور محبوكة كتلك التي يقدمها نجيب محفوظ في رواياته. إن هذا الصراع يعد سمة من سمات رواية "المصري" وبلاغتها في التعبير عن رؤيتها وكأن الكاتب يريد أن يلفت نظر القارئ إلى أن هذه الرواية مخادعة تحتاج منه أن يتسلح باستراتيجية للقراءة ليدرك أنها ليست رواية توثيقية كما قد يتوهم بل اختارت الاتجاه الجمالي الواقعي المفعم بالجمال والفن.

كما يشير الباحث إلى أن السارد أحمد الساحلي صارع النمط الشاعري الذي مثله الأديب المغربي ابن مدينة تطوان "محمد الصباغ" باعتباره يقدم في كتاباته لوحات تجريدية في كتابه "تطوان تحكي"؛ وهذا النمط الشاعري يرفضه الساردلأنه يهدف إلى تحقيق مشروع روائي ضخم مستوحى من تجربة نجيب محفوظ الروائية.[22]

رواية المصري والنقد الاجتماعي

ولعل رواية المصري تسعى إلى تصوير أنماط من السلوك الاجتماعي والأخلاقي والثقافي المتوارث عبر تاريخ متطاول من الزمن؛ في المأكل والملبس والتفكير والعلاقات الاجتماعية وغير ذلك. وعلى هذا الأساس يمكن أن نلمس نقدا اجتماعيا لمظاهر سلوكية واجتماعية تميز المجتمع التطواني. والرواية - في الوقت نفسه- تنتقد الهوية المنعزلة. وقدأشار الباحث إلى "أن "المصري" في أحد أبعادها نقد ساخر للهوّية المنعزلة المتشبثة بتاريخ متوهم، إذ تسرد الرواية سيرة شخصية هائمة بالإنسان وبالمغامرة وبالرحلة وبالانتقال الجغرافي إلى فضاء آخر وبالانفصال عن فضاء متحجر ونقاء وهمي إلى حيث التلاقي والتفاعل وتخصيب الطاقات".[23]

ويرى الباحث أن "رواية أنقار دعوة إلى تواصل أصيل مع تراث نجيب محفوظ الذي ينبغي الاحتفاء به ووضعه في الاعتبار الحقيقي الذي كادت تطمسه المواقف الإيديولوجية والسياسية التي هيمنت لفترة طويلة على علاقة ثقافتنا المغربية بهذا المبدع الإنساني، كان الخاسر الوحيد فيها هو المثقف المغربي الذي أضاع نموذجا أصيلا وصورة ملهمة محفزة"[24]

وتسعى هذه الرواية من خلال سياقها العام وموضوعها المتمثل في طموح السارد إلى كتابة رواية عن"تطوان" بإيحاء مصري، إلى إبراز أن الثقافة نتاج يقوم على التواصل والتفاعل بين شعوب وأفراد من بيئات مختلفة. وهكذا استوحى من رواية "القاهرة الجديدة" موضوعه لكتابة روايته. و يصور على لسان السارد لحظة قراءته لهذه الرواية والإحساس الذي تملكه بعد القراءة بأنها ولادة جديدة.[25]

وفي سياق آخر تحكي هذه الرواية قصة العلاقة بين الثقافتين المغربية والمصرية، كما تدعونا الرواية إلى تأويل قصة الرواية في سياق التواصل الإنساني والثقافي بين الشعوب. وهكذا يتجلى أن حب الثقافة المصرية كانت سمة مشتركة بين معظم القراء المغاربة الذين عاشوا زمن توهج هذه الثقافة وقيادتها للعقل العربي.[26]

وتبرز الأعمال السردية الثلاثة التي حللها الباحث "القاهرة تبوح بأسرارها" و"مثل صيف لن يتكرر" و "المصري" مدى الارتباط الوثيق بين المغرب ومصرومدى تأثير الثقافة المصرية في الثقافة المغربية. كما تظهر ذلك الحلم المشرقي الذي كان معظم المغاربة يتوقون إلى تحقيقه؛ وهكذا تشكل الهوى المصري في وجدانهم وأصبح مسيطرا عليهم؛ فحقق بعضهم هذا الحلم عن طريق السفر الفعلي إلى مصروالمعاينة الحقيقية لفضاءات القاهرة ولم يتحقق لآخرين هذا السفر الفعلي، بل كان سفرا ذهنيا بواسطة التخييل. كما مثلت الثقافة المصرية لهم مأوى يلوذون به في تحقيق ذواتهم ومصدرا يستلهمون نماذجه ويحاكونها.

1. تواصل الشعوب موضوعا تخييليا:

يتناول الكتاب تأثير الثقافة المصرية في وجدان الإنسان المغربي، كما جسدته مخيلة ثلاثة كتاب مغاربة؛ أي إن موضوع هذا الكتاب هو هذا التأثير على نحو ما صاغه الخطاب الأدبي؛ التأثير ليس باعتباره حقيقة تاريخية وواقعة موضوعية ولكن باعتباره خطابا تخييليا أو صورة سردية . من هنا كان على الباحث أن يواجه موضوعه مستخدما أدوات مستمدة من البلاغة والنقد الروائي ما دامت الساحة التي يواجه فيها هذا الموضوع هي ساحة التخييل والأدب؛ أي النظر إليه باعتباره مكونا تخييليا.

2.البلاغة والتأويل :

يستخدم الباحث مفاهيم البلاغة بمدلولها التخييلي كما استخدم مفاهيم تأويلية مستعارة من نقد الجنس الروائي ونظرياته، كمفهوم " الرغبة المثلثية" التي تميز البطل الروائي عند روني جيرار، ومفهوم "الرواية العصابية "الأسرية التي تشكل الأصل النفسي لكل رواية حديثة كما صاغته مارت روبرت ، ومفهوم " الهوية المنفتحة والمتعددة" التي تسم الجنس الروائي باعتباره يقوم على التفاعل اللغوي والثقافي، كما صاغها إدوارد سعيد في كتابه : "الثقافة والإمبريالية".

3.أبعاد خطاب المنهج:

يتميز الخطاب النقدي في هذا الكتاب بابتعاده عن النقد النظري أو عن نزعة الإلحاح على المنهج والمفهومات النظرية التي عادة ما يفيض الباحثون في استعراضها باعتبارها آليات يتبنونها في مقارباتهم النصية، بحيث تتحول النصوص إلى مجرد شواهد وحجج على مصداقية تلك الآليات. إننا هنا لا نواجه منهجا صريحا أو معلنا يدافع عنه صاحب الكتاب بقدر ما نواجه الأعمال الأدبية نفسها، إذ يعمل الباحث على تحليل خطابها السردي متوخيا الكشف عن صيغ حضور تأثير الثقافة المصرية في وجدان الشخصيات السردية ودلالات ذلك الحضور. وكأن الباحث غير معني بالأدوات المنهجية بقدر عنايته بالتوغل في العوالم التخييلية لتلك النصوص وسبر طاقاتها البلاغية على تصوير موضوع تاريخي وحضاري وثقافي واجتماعي.

ولا شك أن عنوان الكتاب:" الهوى المصري في المخيلة المغربية " بقدر ما يوحي لقارئه بالابتعاد عن العناوين النظرية والمنهجية الصريحة، يتكشف عند القراءة والتأمل عن منهج وتصور نقدي وأدوات تحليلية. وهذا يدل في واقع الأمر على سمت مطلوب في الكتابة النقدية العربية، ذلك السمت الذي ينادي بأن يكون النقد إبداعا فكريا كما أوضح الباحث في كتاباته النقدية السابقة.



محمد مشبال، الهوى المصري، قراءات في السرد المغربي الحديث، منشورات بلاغات، ط1، 2007[1]

نفسه، ص 53.[2]

نفسه، ص 55.[3]

نفسه، ص 53-54.[4]

نفسه، ص 55.[5]

نفسه، ص 60.[6]

نفسه، ص 64.[7]

نفسه، ص67.[8]

نفسه، ص 72.[9]

نفسه ص73.[10]

نفسه، ص77-78.[11]

نفسه، ص 78-79.[12]

نفسه، ص 82-83.[13]

نفسه، ص 83.[14]

نفسه، ص 84.[15]

نفسه، ص 85.[16]

نفسه، ص 86.[17]

نفسه ص 89.[18]

نفسه، ص 169-170.[19]

نفسه، ص171-172.[20]

نفسه، ص154-155.[21]

نفسه، ص 142-143.[22]

نفسه، ص168.[23]

نفسه، ص 145.[24]

نفسه، ص 118-119.[25]

نفسه ص 165-166.[26]


عبدالواحد التهامي العلمي


ليست هناك تعليقات: